التدريس مهنة كفيلة بتخليق وتجويد الحياة العامة للإنسان، لأنها بمثابة محرك فعلي للتنمية الإنسانية والتطوير البشري؛ لهذا فهي في حاجة دائمة لضخ دمائها بالأكفاء الذين يحملون موصفات المدرس المتمكن صاحب المهارات عالية، فأي خلل واعوجاج في اختيار العنصر البشري القائم على عملية التدريس سيؤدي حتما إلى إحداث تشوهات فكرية وانحراف سلوكي لدى المتعلمين الذين يتم تدريسهم سواء على المستوى القريب أو البعيد، لهذا فالمدرس عند الأمم الناهضة حجر الزاوية في إصلاح وتطوير الإنسان بعد تمكينه من منتجات تدريسية عالية الجودة تحاكي متطلبات المستقبل والثورة المعرفية الحاصلة، لاسيما أن مستجدات ومسارات التدريس في العصر الحالي، فرضت أدوارا جديدة على المدرسين اليوم، فلم تعد مقتصرة على القدرات الفردية ولا على جودة الأداء التي تمكن من تمرير المواد المدرسة إلى العقول بشكل سلس.
تعتبر الموارد البشرية التي تقوم بالتدريس في المؤسسات التعليمية بمختلف فئاتها دعامة حقيقية تستند إليها المنظومة التربوية الناجحة، نظرا للدور المحوري والأساسي الذي يضطلع به المدرس في الرقي بهذه المنظومة، باعتباره الركيزة الأساسية المساهمة في تطور وتقدم مهنة التدريس برمتها؛ وذلك بمساهمته الجبارة في تحقيق أهدافها المتنوعة، ويبرز ذلك في التمكن من تنشئة أجيال محصنة قيميا وأخلاقيا ومهيأة فكريا وعلميا.
وبالرغم من هذه الحقائق الظاهرة للعيان إلا أننا نجد مجموعة من الأنظمة التعليمية المغاربية التي تقف على حافة الانهيار لا بسبب تخبطتها في مشاكلها الكثيرة، ولكن بسبب رفع أيديها على التعليم العمومي ووضع لمساتها الأخيرة لدفنه؛ بحيث أقدت على خطوة خطيرة ستؤدي لا محالة إلى دماره، ويتمثل ذلك في توظيف عشرات الآلاف من خرجين الجامعات والكليات بالتعاقد في قطاع التدريس كحل ترقيعي للتقليل من نسبة البطالة، بالرغم من الانتقادات الواسعة التي قدمها المهتمون بالشأن التربوي بعد اتخاذ الحكومات المغاربية لهذا القرار غير المدروس، ويبقى التبرير الذي تقده الوزارة الوصية على مهنة التدريس واهيا؛ باعتبارهم أن اللجوء إلى التوظيف بالعقدة كان ناجما عن الحاجة الضرورية لسد الخصاص الكبير الذي يعاني منه هذا القطاع على مستوى هيئة التدريس، وهذا ما يدفعنا بالذات إلى طرح السؤال التالي: كيف لنا أن نتحدث عن الجودة في ميدان التدريس في ظل التوفر على أطر تربوية لا تمتلك الكفاءة العالية؟ وذلك بغياب تكوين بيداغوجي ومعرفي جيد مواكب لتطورات العصر وتحدياته.
إن فتح التوظيف في مهنة التدريس لكل من هب ودب من دون تكوين أساسي حقيقي وفعال سيؤدي إلى فقدان هذه مهنة لبريقها بمجرد ما أن تصبح وظيفة لمن لا وظيفة له، وهذا ما ستتمخض عنه تداعيات سلبية لا ينحصر نطاقها فقط في إضعاف المدرسة العمومية؛ بل ستمتد إلى تنفير عموم المواطنين بمختلف شرائحهم منها، ودفعهم إلى تدريس أبنائهم في التعليم الخاص، وبالتالي إقبار المدرسة العمومية، وهو الوضع الذي سيحدث أزمة كبيرة جدا.
ولكن المؤلم من هذا كله هو غياب الحكامة الجيدة في التشغيل، الشيء الذي جعلنا نجد عددا لا يستهان به من خريجي المدارس العليا للمهندسين يجتازون مباريات التدريس لا لشيء سوى هروبا من البطالة، أليس حريا بالقائمين على التشغيل أن يستغلوا تكوين هؤلاء من أجل تطوير قطاعات صناعية وفلاحية وخدماتية وغيرها من القطاعات التي تحتاج إليهم وتخدم تكوينهم الذي تلقونه عوض ولوجهم ميدان التدريس مكرهين؟ نفس الأمر بالنسبة للدكاترة، فبدلا من أن يستفيدوا من خبراتهم في مجالات البحث تتركهم الدولة عرضة للتهميش والبطالة، فيلجؤون لمهنة التدريس في المدرسة العمومية مكرهين، أين هو الاستغلال الأمثل للكفاءات؟
عندما يكون التدريس في مقدور الجميع امتهانه يصير الأفراد الذين يمارس عليهم غير قادرين على التفاعل الواعي مع منجزات عصرهم، فيعجزون عن التطلع إلى المستقبل لفقدانهما الثقة في أنفسهم وبمن يحيط بهم، وليس هنالك طريق آخر من غير توظيف الكوادر التدريسية ذات الكفاءة العالية من أجل تجاوز ذلك وكل المعيقات التي لها علاقة بهذه المهنة في ظل تسارع المستجدات العلمية وتطور التقنيات التدريسية الحديثة، والتي زادت من أهمية امتلاك المدرس للحد المطلوب من الكفاءة للأداء المهني، كشرط ضروري لممارسة مهنة التدريس، لكي يتم حماية الأجيال من المدرسين غير الأكفاء، لذا نجد اتفاق قادة الفكر التربوي على أن المدرس الكفء هو العنصر الفعال في تحقيق الأهداف التربوية والركيزة الأساسية في عملية التدريس التي لا تعلوها أداة ولا تعوضها وسيلة.
ومن الضروري وضع شروط صارمة وضوابط دقيقة في اختيار من يصلح لمهنة التدريس داخل المؤسسات التعليمية، إذ ليس كل من يملك شهادة جامعية قادر على أن يكون متمكنا وناجحا في ممارسة التدريس، ولا ينبغي أن يكون امتصاص البطالة مرهون بخلق فرص عمل كبيرة في قطاع حساس كالتدريس؛ وذلك بتسهيل عملية الولوج لهذه المهنة إذ لا يكفي فقط الحصول على الشواهد العلمية والمرور بمجموعة من الاختبارات التقييمية التي أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها صورية؛ لأنها تبقى مجرد مسرحيات وتمثيليات هزلية فاقدة للمعنى الحقيقي بفعل غياب النزاهة والشفافية، والحديث عن المعايير المرتبطة بالقبول في ممارسة التدريس يلزمه تفصيل كثير، وهذا ما سيدعو إلى التدوين في هذا الموضوع في فرصة أخرى.
وانطلاقا مما ذكرنا تكمن حساسية اختيار المدرسين على اعتبارهم أشخاصا يتعاملون مع مختلف الأصناف البشرية، فعلى عاتقهم توضع مسؤولية المساهمة في تنمية المتعلمين وتطويرهم، وغير الكفء في مهنة التدريس لا يستطيع مساعدة من يدرسهم في ذلك بل هو في حد ذاته معيق لسعي المتعلمين للنمو السليم والتطور الجيد، فعدم كفاءة من يتم اختيارهم للقيام بمهنة التدريس سيؤدي إلى الوقوع في إخفاقات كثيرة لا حصر لها، ومن هنا يظهر أن النجاح الحقيقي لأي نظام تعليمي يكمن بشكل كبير في استقطابه لكفاءات تمتلك مؤهلات عالية في التدريس.
وعلى سبيل المثال نجد نظام التدريس في فنلندا التي تعد رائدة في هذا المجال، فالمدرس عندهم خاضع لتكوين رفيع المستوى، بحيث يتطلب الولوج إلى مهنة التدريس في جميع المراحل التعليمية حصول المدرس على درجة الماجستير، بالإضافة إلى دراسات موسعة في العلوم التربوية والمواد الدراسية، لهذا تحظى هذه المهنة عندهم بتقدير بالغ، في حين أن المسؤولين عن قطاع التدريس عندنا تجدهم في مقدمة من يسعون للحط من هذه المهنة باختيارهم لفئة كبيرة من الذين يفقدون للمهارات التي تمكنهم من ممارسة التدريس، وبعد ذلك يقومون بتحميل المدرس الذي لا حول ولا قوة له مسؤولية ذلك الخراب الذي صنعوه بسياستهم وقراراتهم البلهاء.
لا يمكن امتلاك أطر مؤهلة للتدريس إلا عندما يكون المدرس متربعا على قائمة اهتمامات الوزارة الوصية عليه؛ بتمكينه من التكوين المستمر لتحقيق مقتضيات التطور الفعال، لأن تعزيز خبراته وتنمية أفقه وقدرته على توظيف أساليب التدريس الحديثة، سيجعله متمكنا من أهم المهارات الجديدة التي يفرزها هذا العصر المتقدم، وبذلك سيصبح قادرا على تحويل مختلف تحدياته وطموحاته إلى فرص حقيقية، فإيصال تلك المكتسبات للمتعلمين سيساعدهم كثيرا في أن ينشؤوا جيشا كبيرا من المبدعين والمبتكرين.
وفي الأخير يجب على المسؤولين في الحكومات المغاربية التفكير في حلول بديلة لمشكل البطالة والتشغيل بعيدا عن ميدان التدريس الذي يحتاج لمقومات ومهارات لا يمكن أن تتوفر إلا في بعض حاملي الشواهد العلمية التي تخول لهم اجتياز مباراة الولوج لسلك التدريس، فأبناء الشعب ليسوا فئران تجارب لكي يتعرضوا للتجريب، لهذا يجب على أصحاب القرار الاعتراف بالخطأ والتسريع في تصحيح المسار قبل فوات الأوان بدل الهروب إلى الأمام والتملص من المسؤولية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.