تعيش أمتنا مرحلة عصيبة جداً وربما كانت الأسوأ والأخطر، وجودها ذاته تتهدده أخطار متنوعة منها مستحدث ومنها متجدد، عدوان خارجي وعدوان داخلي، إمكانياتها مسخرة لإعاقة تحررها وتقدمها، عقلها مستلب، ثقافتها شائهة، إرادتها محتجزة، تعليمها مدسوس، دينها، تعبث به عقول متحجرة مستزلمة للسلطة وللسلاطين، أرضها مستباحة كثير منها تحت الاحتلال، جسدها ممزق، مصائرها تتقرر على موائد أعدائها وهي مغيبة، سلاطينها دمى متحركة، أحزابها جائعة، نخبها بائعة.
فلسطين قضيتها الأولى تكابد قهر العدو وقهر الحياة، كانت عروس قضايانا فأغرقونا في عشرات القضايا الأخرى التي تأكل لحمنا وتسفك دمنا، حتى لا يبقى فينا قدر لفلسطين.
إنسانها يتعرض لكل صنوف القهر والقمع والاستبداد. يغالب الحياة فتغلبه متطلباتها، متروك أمره لفردانيته، يواجه وحيداً دونما حماية من أية مظلة، يواجه أخطار العولمة الرأسمالية بكل جبروتها وإمكانياتها، يسقط من يسقط، يترنح كثيرون ويصمد قلة.
حروب على إنسانها لتسفيه هويته وهدر مناعته وإسقاط أحلامه في غياهب العبثية، عبث ببنيها الاجتماعية وثباتها التاريخي، حروب لانتزاع أخلاقه منه وانتزاعه منها فيصبح هشيماً حطباً.
هذه حال أمتنا وحالنا،
– أمة بائسة…
من نحن؟ ماذا نريد؟ يجب، ينبغي، مطلوب، نطالب، لازم، يلزمنا… إلخ، صيغ تكثر في كتابات المخلصين من أبناء أمتنا حين الحديث عن واقعنا الراهن المتردي وطرح أفكار أو تصورات للخروج من ذلك الواقع المؤلم الخطير، دون تحديد لمن يوجهون الخطاب، ومن المسؤول عن تنفيذ تلك الأفكار، كثير منها جميل وصائب ومطلوب.
السؤال الأهم: من سينفذ وكيف ننتقل مما نحن فيه إلى ما هو لازم؟ كيف نوقف التردي والانهيار أولاً تمهيداً لبدء التقدم؟ من يستطيع ذلك ومن يريده ومن يعرقله؟ بغير تحديد الجهة المطالبة بالتنفيذ والقادرة عليه وقبل ذلك الراغبة فيه، يبقى الكلام منقوصاً خالياً من الفعالية المطلوبة والأثر اللازم، يجب إقامة حكم ديمقراطي، وحكم القانون وحقوق المواطنة والعدالة، تغيير نظام التعليم، تحرير الاقتصاد، إلى آخر المطالب المحقة.
المشكلة في كيفية الوصول إلى هذه الأهداف، النظام الرسمي العربي الذي يسيطر على سلطة القانون وفعالية القوة الواقعية، غير معنيّ بها. لا بل لا يريدها ويعرقلها ويعاكسها، فما العمل؟ الذين يملكون الإمكانيات لا يريدون ما نريد، فهل نكتفي بالمطالبة أم ننتقل إلى خطوات عملية تنفيذية تدرك حجم ونوع المشكلات في الواقع لتنطلق في عمل مدروس وفقاً للإمكانيات المتاحة، وهي كثيرة بالمناسبة!
لن يتخلى صاحب الامتيازات عنها طوعاً، فلنحدد من نحن وماذا نريد، وماذا نستطيع، وكيف، كل مَنْ يتهجم على الإنسان العربي المضطهد والمقهور والتائه في صحراء الحياة المجدبة، ليست تحميه سلطة ولا ترعاه مؤسسة ولا تدافع عن حقوقه أحزاب أو نقابات ولا يكشف له الحقائق إعلام، متغافلاً عن مفاعيل العدوان المستمر عليه من أعدائه في الداخل والخارج، إنما هو منافق أو مكابر، حيث تجتمع في قهر الإنسان العربي وتطويعه وتركيعه، كل قوى البغي والعدوان العالمية وأدواتها الإقليمية والمحلية بكل ما تملك من إمكانيات هائلة متوزعة في كافة مجالات القوة والسيطرة.
متفرداً بين غيره من البشر على سطح الكرة الأرضية، يواجه الإنسان العربي منفرداً دون غطاء من أحد إلا من قوة إيمانه وعزيمته وصلابة إرادته التي تحملت ما لم يحتمله بشر آخرون.
وعوضاً عن البحث في آثار ذلك العدوان المزدوج عليه وتشريح أدواته وقواه ووسائله ومقولاته، ومن ثم البحث فيما هو إيجابي من شأنه رفع المعنويات وتدعيم المناعة وتحصين النفس والقلب والعقل لدى الإنسان العربي، يلجأ البعض إلى تحميل هذا الإنسان المتعب بعروبته، المستهدف في وجوده، مسؤولية ما يعانيه واقعه من تردٍّ وضعف وهوان، فينسبه تارة إلى التراث وتارة أخرى إلى التاريخ وكأنه يبتغي تبرئة قوى العدوان تلك، إما نفاقاً أو خوفاً أو مكابرة لادعاء فهم مقلوب ومغلوط.
من كان حريصاً على وطنه وشعبه وأمته، فليقل خيراً أو ليصمت، ورغم كل هذا وذاك، لا تزال شعلة الحرية لا تنطفئ، والإرادة لا تستسلم، والإيمان لا ينكفئ، والثورة لن تهدأ. تحية لكل عربي حر مستمسك بعروته الوثقى، مدافعاً عن حقه في العزة والكرامة والحياة الحرة الكريمة.
الله غالب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.