I– في سنة 1974 نشر الباحث الأمريكي أرثر ميلر دراسة حول التحول في التصورات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استنتج وجود "اغتراب" للمواطنين عن السياسة. السبب في هذه الأزمة تبعاً لميلر (Miller, 1974) لا يتعلق فقط بعدم رضا المواطن على محتوى القرارات السياسية للحكومة، بل تعداها ليصل إلى النظر بشيء من الريبة لركائز مشروعية النظام السياسي.
ميلر يقر في هذا الإطار أن أي نظام سياسي مهما كانت قوته، وهنا يركز هو وآخرون في الأساس على الأنظمة الديمقراطية، لأنها أكثر حساسية وقابلية للتأثر بالإشارات، سواء السلبية أو الإيجابية القادمة من المجتمع، أي نظام سياسي لا يستطيع أن يطيل أمد حياته دون دعم ومساندة (support) من غالبية مواطنيه، حين يقل هذا الدعم أو ينعدم من خلال تراكم حالات عدم الرضا لدى المواطن سيؤدي هذا الوضع بالضرورة على المدى البعيد إلى زعزعة استقرار النظام السياسي.
في الأنظمة الديمقراطية يتم تصريف حالات عدم الرضا في إطار المسلسلات الانتخابية، حيث تُعطى الإمكانية للمواطن لتفريغ الإحساس بعدم الموافقة على السياسات الحكومية، في هذا الإطار تُمارس الأحزاب السياسية دورها الرئيسي كوسيط في لعبة تدبير الصراع السياسي، لكي لا يتحول هذا الأخير في حالة عدم التجاوب مع الإشارات القادمة من المواطن إلى "عنف" ومطالب التغيير الجذري التي ستأتي على استمرارية النظام السياسي القائم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن مسألة وجود علاقة سببية بين إمكانية حدوث ثورة ضد النظام القائم كنتيجة لفقدان الثقة في النظام السياسي، أو ما سمي أيضاً "بالاغتراب السياسي" (political alienation) تبقى قضية غير محسومة وتحتاج إلى المزيد من البحث والتدقيق.
II– ما المقصود هنا "بالدعم" أو "المساندة" وما هي تجلياته؟
ديفيد إيستون كان أول من استعمل مفهوم الدعم في إطار نظريته لتحليل النظم السياسية (Easton, 1964, 1975)، حيث ميَّز بين نوعين من الدعم: الأول خاص (specific) ويتعلق بنظرة المواطن التقييمية سواء بالإيجاب أو السلب لأداء مختلف السلطات المختصة في التدبير اليومي لحياة المواطن، ويتعلق هنا الأمر بالمسؤولين الرسميين في السلطة التنفيذية، وأعضاء الجهاز التشريعي، وكذلك القضاة، ومجموع الإدارات سواء على المستوى المحلي أو المركزي، ويكون هذا التقييم إيجابياً حين تُقابل المطالب والحاجيات الصادرة عن المجتمع برد فعل إيجابي لمختلف مؤسسات الدولة المعنية بقضاء حوائج المواطنين.
أما النوع الثاني فهو الدعم العام (diffuse) الذي يتميز بطابعه الدائم (نظرياً) ولا يتأثر على المدى القريب والمتوسط بعدم رضا المواطن عن الدولة، لأنه يتعلق بشعور المواطن بالارتباط العميق والولاء تجاه النظام السياسي في كليته، وهو مصدر مشروعية هذا الأخير، الذي يتكون لدى المواطن منذ الصغر وينمو من خلال التربية الاجتماعية التي يتلقاها الفرد.
اختصاراً يمكن القول إن الدعم والثقة يرتبطان بالفاعلية السياسية، أي درجة تجاوب الدولة مع انتظارات المواطنين، حيث إنه كلما كانت الفاعلية السياسية عالية ارتفعت درجة الثقة في النظام السياسي، وكلما انخفض أيضاً منسوب الاغتراب السياسي.
III– بعد هذه الإطلالة النظرية الطويلة شيئاً ما، سنحاول في الأسطر التالية ربط مفهومي الدعم والاغتراب السياسي بما يقع في الساحة السياسية المغربية، لاستخلاص بعض الملاحظات فيما يتعلق بالتبعات المستقبلية لما سمي حينها "بالبلوكاج" وبالطريقة التي اختارها الملك باعتباره رئيساً للدولة "لتسهيل" تشكيل الحكومة.
أول نقطة أساسية تجب الإشارة إليها أن مسألة التقييم تبقى جد صعبة في بنية سياسية غير ديمقراطية، على عكس الدولة الديمقراطية التي تكون فيها ثقافة ربط المسؤولية بالمحاسبة هي جوهر الممارسة الديمقراطية داخل المجتمع. لهذا السبب يجب الاعتراف أن السياق المغربي لا يسمح بمثل هذا التقييم (بالثقة أو عدم الرضا)، خصوصاً حين يتعلق الأمر بتقييم الفاعلية السياسية لمركز القرار السياسي داخل الدولة، ومدى استجابته لتطلعات المواطن. لهذا فأي محاولة لمقاربة مفهوم الدعم تبقى ناقصة في غياب دراسة ميدانية تستقرئ شعور المواطن تجاه السياسة.
لكن رغم ذلك ومن خلال الانطباع العام يمكن القول إن الأمور لا تسير في الاتجاه الصحيح، الذي يتماشى مع متطلبات التغيير وليس الالتفاف وإعادة صياغة السلطوية في قالب جديد.
هنا يجب الاعتراف بسذاجة الطرح الذي ما زال يؤمن بوهم المسلسل بانتقال ديمقراطي حقيقي في المغرب بعد مرور 6 سنوات على التعديل الدستوري، الذي جاء كردة فعل على الحراك العشريني. انطلاقاً مما سبق ذكره وضع ثلاث فرضيات لمستقبل العبث السياسي الحالي:
النقطة الأولى: يمكن التأكيد على استمرار عدم تجاوب الدولة مع الإشارات القادمة من المجتمع، خصوصاً في الشق المتعلق بالإصلاح السياسي الحقيقي، هذا التجاهل سينتج عنه تزايد حالة الاغتراب السياسي للمواطن المغربي، الذي يتمظهر في فقدان الثقة في السياسة، ومعها المؤسسات السياسية، لعدم قدرة هذه الأخيرة على الاستجابة لتطلعات المواطن المغربي، سواء على مستوى تحسن مستوى المعيشة اليومية، أو على مستوى دمقرطة النظام السياسي.
النقطة الثانية: رغم حالة عدم الرضا وانعدام الثقة والاغتراب السياسي، فلن تؤثر هذه العوامل على المدى القريب والمتوسط على شرعية النظام السياسي، لذلك تبقى في نظري إمكانية ظهور حركة احتجاجية مستبعدة.
لكن وجب الاعتراف أن المعارضة غير المؤسساتية أثبتت فاعليتها (حركة 20 فبراير نموذجاً)، عكس ما نشهده منذ مدة طويلة من اندحار تراجيدي للعمل المؤسساتي الجاد، لعوامل مرتبطة ليس فقط ببنية النظام السياسي المغربي المهيمن، الذي لا يتيح المنافسة السياسية التي قد تحدث تغييراً جوهرياً في بنية هذا النظام، بل السبب راجع أيضاً لوجود جزء كبير من الطبقة السياسية التي لا تؤمن أصلاً بالديمقراطية، وكذلك هوان الفاعل السياسي الحزبي وعجزه، الدافع إلى إحداث التغيير الحقيقي عن طريق العمل من داخل المؤسسات، وهو ما أثبتته تجارب حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، نفس الطريق يسير فيه حالياً حزب العدالة والتنمية.
النقطة الثالثة والأخيرة: أن أي نظام سياسي مهما قدمت شرعيته في التاريخ وكبرت قوة تجذرها في المجتمع، فإنه لا يبقى للأبد محصناً ضد موجات الإحباط السياسي. لذلك من المتوقع على المدى البعيد أن الشعور بالاغتراب السياسي في المغرب نتيجة لعبثية اللعبة السياسية والاختفاء شبه التام لدور الأحزاب السياسية كوسيط أساسي بين المجتمع والدولة وغياب البديل السياسي الحقيقي للتغيير، أن يتحول إلى ظهور حركة أو حركات احتجاجية.
مسألة تحول الإحباط أو الاغتراب السياسي إلى موجات المطالبة بالتغيير الجذري للنظام لا تزال غير محسومة، إذ تختلف آراء الباحثين حولها، فهناك رأي يقول إن دعوات التغيير مرتبطة بالحالة الذهنية أو المزاج العام للمجتمع أو جزء منه، هذه المطالب تخرج للواقع حين يمر المجتمع بفترة ترتفع فيها الآمال والانتظارات بوجود تحسن في الأوضاع، سواء السياسية أو الاقتصادية، لكن بعد ذلك تتبعها فترة من انكسار هاته الآمال لغياب التغيير المنشود.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.