"منية" طفلة حالمة مفعمة بالحياة، تشبعت بالأحلام الوردية منذ نعومة أظافرها.
الفتاة الصغيرة تصف نفسها بأنها سعيدة.
لم تستطع المسؤوليات منذ صغرها، لكونها الأكبر بين شقيقاتها، خطف ابتسامتها.
"منية" وضعت أمام عينيها هدفاً بحياة يملؤها النجاح والحماسة والصفاء، ترفدها بذلك أسرة يغمرها الدفء والبهجة لتُعيد إليهم في يوم ما جزءاً من تضحياتهم وتكون مفخرة لهم.
هي كانت موقنة بأن الحياة قد تكون قاسية، وأنها قد تمر بمحطات من التعب والفشل، لكن لا بأس؛ ما دام هناك من يسندها فلن تعبأ لشيء، وستواصل مسيرها وبقوة.
لم تكن الطفلة الصغيرة تعي أنها قد تمر بظروف مؤلمة تعكر عليها صفو الحياة وتسلب منها السعادة التي طالما حلمت بتحقيقها.
"منية" فقدت سندها في طرفة عين. بدأت حكاية منية الشوبكي عندما كانت في سن الـ12 عاماً، حينما فقدت والدها فجأة ومن دون سابق إنذار.. تبدد الحلم الجميل الذي طالما راودها، ليحل مكانه الشعور بفقدان الحماية والأمان. لم يكن بحسبانها أن الحياة أشبه بصورة جماعية ستضطر فيها إلى أن تتنازل عن مكانها فيها ليظهر من تحب.
ها قد فقدت الحب الأول والأبدي، الذي ترى فيه طوق النجاة والمنأى عن كل أذى قد يلحق بها في غمار حياتها. برغم ذلك، ربما كان حال "منية" أفضل من كثيرين غيرها يعانون فقدان الأب، فهي تمتلك أماً رحيمة وحنوناً، أضاءت لهم عتمة الحياة، وبددت لهم الشعور بالوحدة والألم النفسي. كانت لهم الروح السمِحة التي يملؤها الحب والود والسكينة، استطاعت أن تجعل من كل ألم أملاً، ومن كل انكسار فرحاً، ومن كل عقبة راحة.
سرعان ما تلاشى الحلم الجميل من جديد، فالمصائب لا تأتي فرادى، وفي الكثير من الأحيان تقسو الحياة على الشخص بكل ما أوتي لها من قوة.
بعد مرور سبع سنوات، شعرت والدة "منية" بالتعب الشديد. ذهبت إلى المستشفى لإجراء عدة فحوصات، لكنها لم تعد إلى منزلها الدافئ. طال غياب الأم عن المنزل، لم تفهم "منية" الأمر بصورة واضحة، لكونها لم تخرج بعدُ من صدمة فقدان والدها التي ألمَّت بهم.
راودها إحساس مريب حينما أقامت والدتها بشكل دائم في المستشفى، وشعرت بأن هناك شيئاً مختلفاً. مرت الأيام والشهور، تحملت تلك الفتاة الكثير من الأعباء والمسؤوليات بعد غياب والدتها المتواصل، وأيقنت بأن هناك خطراً ما يحدق بها.
علمت أخيراً أن والدتها مصابة بالسرطان، لم تكن هناك مقدمات أو تمهيدات، وكان وقع الخبر عليها كالصدمة. الكآبة جثمت على قلبها، وانسابت دموعها بصمت، كأن حال لسانها يقول: "وين الدرب مودينا؟".
بعد صراع مع المرض، تُوفيت والدة "منية"، وتركتها وحيدة مع شقيقاتها في هذه الحياة، وأصبحت مجرد طيف من أطياف الخيال.
استجمعت "منية" قواها من جديد بمشقة بالغة، وعزمت على تحقيق حلم والدتها بإكمال دراستها الجامعية، وأخذت على نفسها عهداً بأن تكون هي السند لشقيقاتها، واستطاع جدها، بإيمانه وحكمته، أن يحتضنهن ويكون لهن بمثابة الأم والأب وكان السند الثالث لهن.
واصلت "منية" دراستها الجامعية، معتمدة على جدها ومساندته إياها. تحلَّت بالعزيمة والإصرار، لكن الحياة عادت من جديد وسرقت منها الفرح، وألقت بثقلها عليها، فما إن قاربت التخرج حتى تُوفي جدها، تاركاً اياها وحيدةً في خضم حياة قاسية لا ترحم، لتعود مجدداً للتخبط في مواجهة مختلف تحدياتها، وهذه المرة وحدها.
صدمة الفقد قاسية ولأبعد الحدود مهما حاولنا التخفيف من وطأتها، ولولا لطف الله وعنايته لما استطاعت "منية" المواصلة بعدما تجرعت مرارة الابتلاء. كانت الأمَ والأبَ لشقيقاتها، تحملت الكثير من الصعاب.. كم كابدت من الآلام في سبيلهن، ولم تأبه بأن حياتها قد تغيب أمام عينيها من دون أن تشعر، وتمنت لو أن الزمن يعود قليلاً للوراء، لتخبر والديها بأنها على قدر الحمل والمسؤولية.
لم تُثنِ "منية" العذابات المتكررة عن تحقيق حلمها في تصميم الأزياء، بل زاد شغفها به، لتكون في يوم ذات شأن كما عهدتها والدتها، التي رأت فيها منذ صغرها صفات تميزت فيها عن أقرانها.
وكانت نصيحتها للشباب: "مهما كانت الظروف صعبة، ومهما كانت الحياة صعبة، إذا ما كنت قَدّ حالك وعندك إرادة قوية، ما رح توصل".
تحلّت بعزيمة من حديد وإرادة قوية، وأسست مشروعها الخاص "سمرا" من رحم المعاناة، وليس هناك أجمل من تذوُّق حلاوة النجاح بعد تحدي الصعاب والإصرار كثباتِ طيرٍ في وجه العاصفة، فالنجاح لا يتحقق إلا بالإصرار وعدم الاستسلام للفشل أو اليأس والإحباط، وليس عيباً أن تسقط، ولكن العيب أن تركن إلى السقوط.
هكذا هي المعادلة: "اعتزمْ وكدَّ فإِن مضيتَ فلا تقفْ.. واصبرْ وثابرْ فالنجاحُ محققُ".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.