لحظات ولادة الطفل لحظات أعتبرها تجربة خاصة ومقدَّسة لكل أُم، لكن أحببت مشاركة لحظاتي مع طفلي معكم؛ لعلي أساعد بعض الأمهات حتى لا تتكرر معهن بعض المراحل المزعجة في هذه التجربة، أو بالأحرى بعد هذه التجربة، وحتى يستفِدن من تجربتي.
كانت ولادة طفلي، وبالأخص عندما حملته في أحضاني لحظة خروجه إلى الدنيا، من أجمل اللحظات في حياتي، في تلك اللحظة نسيت كل الآلام التي مررت بها أثناء أشهر الحمل الطويلة وساعات الولادة المؤلمة. ما زلت أتذكر وجهه الملائكي، ونظرته إليَّ وهو يبكي كأنه يعاتبني، وأتذكر كيف قبَّلت كفَّه قبل أن تأخذه الممرضة منِّي، ولا أتذكر ما حدث بعدها بفعل تأثير المخدِّر، فقد طلبتُ من طبيبتي ألَّا تُخدّرني قبل أن أحمل طفلي بين ذراعيّ.
وفعلاً فالولادة معجزة من معجزات الحياة، وهي من أجمل التجارب التي تخوضها المرأة، حيث إن الله -ولحكمة ما- خصَّ بها المرأة وحدها، وحرمَ الرجل من مُتعتها. ومع أن الألم الذي يرافق الولادة ألم لا يمكن تخيُّله، فإن السعادة في لحظة رؤية الطفل تساوي مقدار ألم الولادة إذا لم تتجاوزه بأضعاف.
في الأيام الأولى التي تلت الولادة كنتُ في قمة السعادة، وكما قال زوجي كنت أعيش في عالم آخر، وحسب تعبيره، فقد كان يشعر بالحب في الأجواء عندما يدخل الغرفة. ولكن وفي اليوم الخامس بعد الولادة، أتذكر أنني بدأت أبكي بشكل لا إرادي، وتقديري للأمور أصبح مبالغاً فيه، أصبحتُ أخاف على طفلي من أمور لا تحدث فعلاً وإنما أمور أتخيلها. وقد كانت مرشدتي في هذه المرحلة هي والدتي، التي عرفَت السبب وأخبرتني أنني أعاني من (اكتئاب ما بعد الولادة)، وأنه يجب استشارة الطبيب النفسي. وفعلاً أخذتُ بنصيحتها وذهبت لمراجعة الطبيب النفسي، والحمد لله، فقد رجعت إلى طبيعتي بعد العلاج. وفي الوقت الذي حاولت فيه الطبيبة النسائية أن تعطيني الأدوية لعلاج حالتي، فإن الطبيبة النفسية التي ساعدتني على الشفاء رفضَت إعطائي أية أدوية في فترة الإرضاع؛ حتى لا يؤثر الدواء على الطفل. ولهذا السبب أؤكد على ضرورة اللجوء إلى رأي مختص لمصلحتك ومصلحة طفلك. وقد دعمتني طبيبتي معنوياً بالحديث والتشجيع خلال فترة إرضاع طفلي، ولكن وبعد الفطام كنت لا أزال بحاجة إلى العلاج، فأعطتني الدواء اللازم، وشُفيت بحمد الله.
وقد لاحظتُ من تجارب خاضتها قريباتي وصديقاتي أن نسبة كبيرة من النساء لا يدركن أنهن مصابات باكتئاب ما بعد الولادة، أو حتى بعد الإجهاض، ويعتقدن أن هذه حال الحياة، وأن الأمور طبيعية بهذا الشكل، ويعانين في حياتهن مع الأولاد ومع الزوج وحتى في حياتهن الاجتماعية، وللأسف وفي أغلب الأحيان يستمر الاكتئاب لأشهر وحتى لسنين طويلة، ومن الممكن أن يزداد ولا تُشفى منه الأم إلا باستشارة ومساعدة الطبيب المتخصص.
وقد جعلتني هذه التجربة أهتم بهذا الموضوع الحساس، حيث تصاب نسبة كبيرة من النساء بحالة اكتئاب ما بعد الولادة؛ لذلك ينبغي على كل امرأة حامل أن تدرك أنها عُرضة للإصابة بالاكتئاب، ويجب عليها أن تنتبه إلى نفسها في الأشهر الأولى بعد الولادة. هل هناك خوف مبالغ فيه؟ هل هناك غضب ومشاعر غير طبيعية أو غير مناسبة؟ إذا لاحظتِ ذلك ينبغي عليك استشارة طبيب نفسي بأسرع وقت ممكن. وقد تواجهين بعض أو جميع الأعراض التالية:
1- الشعور بالحزن واليأس والفراغ، وقد تشعر بعض النساء بالقلق.
2- فقدان الشعور بالمتعة في الحياة اليومية.
3- فقدان الشعور بالجوع، وقد تتم خسارة الوزن نتيجة لذلك، لكن البعض قد يواجه العكس تماماً فقد يشعرن بالجوع بشكل أكثر ويكتسبن الوزن.
4- مشاكل في القدرة على النوم.
5- فقدان القدرة على التركيز.
ينبغي التفرقة أيضاً ما بين مشاعر النفاس والمشاعر المترافقة معة والاكتئاب الفعلي، فالمشاعر المترافقة مع النفاس عادة تنتهي بعد عدة أسابيع ولا تحتاج إلى تدخل معالج نفسي، بينما المرأة المصابة بالاكتئاب تحتاج إلى مساعدة طبيب نفسي، وعادة يستطيع الشخص التفرقة بينهما، لكن من الممكن أن تحتاج المرأة إلى رأي طبيب متخصص لتحديد السبب وما إذا كانت هنالك حاجة إلى مساعدة. وينبغي أن يدرك الجميع أن الاكتئاب ما بعد الولادة ليس خللاً نفسياً أو ضعفاً عند المرأة، لكنه نتيجة لمضاعفات الولادة، والسبب الرئيسي للإصابة به هو التغير في مستويات هرمونات الحمل بعد الولادة. فإذا أحسست أنك تخجلين أن يقال عنكِ إنك تتعالجين عند طبيب نفسي، الأمر الذي له داعي على الإطلاق، فلا داعي لأن يعرف أحد أنك تتعالجين، هذه حياتك فافعلي ما يريحك، المهم صحتك، وراحتك وراحة أهل بيتك.
إن الاكتئاب ما بعد الولادة واقع وهو واقع صعب، وأي امرأة مهيأة لأن تصاب به، ولكن المصيبة هو أن تصاب به وهي لا تعلم ذلك، أو أن تعلم وترفض العلاج لأسباب اجتماعية. لذلك أرجو المساهمة بنشر الوعي حول هذا الموضوع بين الجميع، والسعي للعلاج في حال الإصابة، لتستمتعي بأول وجميع لحظاتك مع طفلك، ويكبر طفلك في بيئة صحية ومع أم سعيدة. وأنصح جميع السيدات الحوامل والنساء المتزوجات وجميع الفتيات المقبلات على الزواج بأن يكُنّ واعيات بهذه الظاهرة، وأن يمنحن صحتهن النفسية الأولوية؛ لأنها الأساس لعيش حياة صحية هانئة لهن ولجميع أفراد الأسرة.
تم نشر هذه المقالة في مدونة بيت زين
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.