لم يكن ظفر إسبانيا بالاستيلاء على غرناطة وسحق دولة الإسلام في الأندلس سوى بداية النهاية لمصير الأمة الأندلسية، ولم يكن فقد السيادة القومية، وفقد الاستقلال والحرية، والذلة السياسية، والاضطهاد الديني والاجتماعي -وهي المحن التي تنزل عادة بالأمم المغلوبة- سوى لمحة يسيرة مما كُتب على الأمة الأندلسية أن تعانيه على يد إسبانيا النصرانية في ذلك الوقت.
أجل كان مصير مسلمي الأندلس بعد فقد دولتهم وزوال مملكتهم من أشد وأفظع ما تعرضت له الأمم الكريمة المغلوبة، وكانت مأساة من أبلغ مآسي التاريخ.. تلك هي مأساة الموريسكيين أو المسلمين المتنصرين.
وفي هذا المقال نحاول أن نمر على ما حدث للأمة الأندلسية المغلوبة عقب سقوط غرناطة في الثاني من يناير عام 1492.
لنعد إلى عام 1491 وبالتحديد في الرابع والعشرين من نوفمبر، في قصر الحمراء بغرناطة، حيث اجتماع طارئ عقده أبوعبدالله الصغير، ملك غرناطة، مع وجهاء وأعيان وفقهاء وفرسان غرناطة؛ للتوقيع والموافقة النهائية على وثيقة تسليم غرناطة حسب الشروط التي اتفق عليها مع الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا. ارتضى كل الحضور هذه الشروط، وبدأوا في التوقيع على الوثيقة، إلا فارس واحد، ارتفع صوته في غضب يشق غرفة الاجتماع ليقول: "إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها وتدنيس مساجدنا وأمامنا الجور الفاحش والسياط والأغلال والتعذيب والمحارق، لا تركنوا إلى هذه المعاهدة، فسيغدر بها ملك النصارى، وهذا ما سوف تراه تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أراه".
كان هذا هو فارس الأندلس الأخير موسى بن أبي الغسان، وبدا كأنه يرى بعينيه ماذا سيحدث في المستقبل للأمة الأندلسية المغلوبة!
يوم الحادي والعشرون من محرم 897 هجرية (موافق لـ25 نوفمبر 1491م) وقعت معاهدة دولية بين ملك غرناطة محمد أبي عبدالله من جهة، وفرناندو وإيزابيلا ملكي قشتالة، أراغون، ليون وصقلية من جهة أخرى، وبموجب هذه المعاهدة التزم الملك المسلم بتسليم مملكة غرناطة للملكين النصرانيين مقابل شروط عليهما احترامها والسهر على تطبيقها. هذه المعاهدة إذن ليست تسليماً لا مشروطاً لغرناطة، ويجب اعتبارها اليوم كأي اتفاقية سياسية ثنائية بين دولتين، بموجبها تخلى الطرف الأول الممثل في الأسرة النصرية الحاكمة عن السيادة في مملكة غرناطة، التي أسسها قبل ذلك بـ5 قرون زاوي ابن زيري بن مناد الصنهاجي، لصالح الطرف الآخر الممثل في ملكي قشتالة وأراغون اللذين تعهّدا بدينهما وشرفهما بالالتزام بسلسلة من الشروط والواجبات، منها حفظ الحق في الحياة وعدم المساس بوحدة الأمة وحرية التدين والعبادة وحفظ الخصوصيات الدينية والثقافية لشعب غرناطة وترك الملكيات والنظام التقليدي الإداري والقضائي كما كان عليه الحال أيام حكم بني الأحمر.
والواقع أنه في الأعوام الأولى عقب سقوط غرناطة أبدى فرناندو وإيزابيلا رفقاً وليناً في معاملة المسلمين، ولاح أن إسبانيا النصرانية تنوي أن تحافظ على العهود التي قُطعت، وعاش المسلمون بضعة أعوام في نوع من السكينة والاطمئنان.
لكن السياسة الإسبانية كانت تخشى دائماً ذلك الشعب الذكي النابه، وكانت
الكنيسة تجيش دائماً بنزعها الصليبية القديمة، وتضطرم رغبة في القضاء على البقية الباقية من الأمة الإسلامية في إسبانيا، وكانت مملكة غرناطة القديمة ما تزال تضم كتلة مسلمة كبيرة، تربطها بثغور المغرب صلات وثيقة، هذا عدا ما كان من جموع المدجنين في منطقة بلنسية، وفي منطقة سرقسطة وغيرها من بلاد أراجون، وكان كثير من أولئك المدجنين، إلى ما بعد سقوط غرناطة بأعوام عديدة، يحتفظون بدينهم الإسلامي. وكان وجود هذه الكتلة المسلمة في قلب إسبانيا النصرانية شغلاً شاغلاً للسياسة الإسبانية.
والظاهر أن السياسة الإسبانية ظلت مترددة في انتهاج المسلك الذي تسلكه إزاء المسلمين، وقد كانوا من أهم عوامل النشاط والرخاء في إسبانيا، وكانت براعتهم قدوة في الزراعة والصناعة والعلوم والفنون.
ولكن الكنيسة كانت تضطرم حماسة في سبيل تحقيق أهدافها، ولم تكن السياسة الإسبانية في تلك الفترة من تاريخ إسبانيا سوى أداة لينة في يد الكنيسة، التي بلغت عندئذ ذروة قوتها ونفوذها.
ويصف لنا مؤرخ إسباني عاش قريباً من ذلك العصر، نيات الكنيسة نحو المسلمين بقوله: "إنه منذ استولى فرناندو على غرناطة، كان الأحبار يطالبون بإلحاح بأن يعمل على سحق طائفة محمد من إسبانيا، وأن يطلب من المسلمين الذين يودون البقاء إما التنصير أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب، وأنه ليس في ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم، بل فيه إنقاذ لأرواحهم، وحفظ لسلام المملكة؛ لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون في صفاء وسلام مع النصارى، أو محافظون على ولائهم للملوك، ما بقوا على الإسلام".
ولم تكن هذه السياسة في الواقع بعيدة عما يخالج ملكي إسبانيا، فرناندو الخامس وزوجه الملكة المتعصبة إيزابيلا الكاثوليكية، من شعور نحو المسلمين، ولم تكن العهود التي قطعوها للمسلمين بتأمينهم في أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم، تحول دون تحقيق أغراض السياسة القومية، ذلك أن فرناندو لم يحجم قط عن أن يغدر بمعاهدة تسليم غرناطة التي وقعها وضمنها البابا لضمان تحقيق أهدافه.
ويعلق النقد الغربي الحديث على ذلك بقوله: "ولو نفذت هذه العهود (العهود التي قطعت لمسلمي غرناطة) بولاء، لتغير مستقبل إسبانيا كل التغير، ولجمع الامتزاج الرفيق بين الأجناس، ولغاض الإسلام مع الزمن، ولتفوقت المملكة الإسبانية في فنون الحرب والسلم، وتوطدت قوتها ورخاؤها، ولكن ذلك كان غريباً على روح العصر الذي انقضى، وأفضى التعصب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتالية بالمغلوبين ذلة مروعة، فاتسعت الهوة بين الأجناس على مر الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدى إلى علاج كان من جرائه أن تحطم رخاء إسبانيا".
وهكذا فإنه لم تمض بضعة أعوام على تسليم غرناطة، حتى بدت نيات السياسة الإسبانية واضحة نحو المسلمين، وكانت الكنيسة تحاول خلال ذلك أن تعمل لتحقيق غايتها لتنصير المسلمين بالوعظ والإقناع، ومختلف وسائل التأثير المادية ولكن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج تذكر، فجنحت الكنيسة عندئذ إلى سياسة العنف والمطاردة، وأذعنت السياسة الإسبانية لوحي الكنيسة، ولم تذكر ما قطعت من عهود مؤكدة للمسلمين باحترام دينهم وشعائرهم. وكان روح هذه السياسة العنيفة حبران كبيران، هما الكاردينال خمنيس مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الإسبانية، والدون دجو ديسا المحقق العام لديوان التحقيق.
وما حدث في غرناطة حدث في باقي البلاد والنواحي الأخرى الأندلسية، فتم تنصير أهل البشرات وبسطة ووأدى آش في عام 1500 م.
وتم إنشاء ديوان التحقيق الإسباني أو ما يُعرف بمحاكم التفتيش، وتولى رئاسته واحد من أشد المتعصبين وهو القسّ توماس دي تركميادا، وتوركميادا هذا كان المعلم الروحي الذي عُهد له تعليم الملكة القشتالية إيزابيلا منذ صغرها على أشد تعاليم التعصب الكاثوليكي، وهو من أسهم في زواجها من فرناندو الأراغوني لتوحيد الإمارتين وضرب ما تبقى من الوجود الإسلامي في الأندلس. كان لهذا القسّ نفوذ كبير على كل حكام شبه الجزيرة، الذين أطلق عليهم لقب "الملوك الكاثوليك" لحماية رسالة البابا العليا وتحرير أرض إسبانيا الكاثوليكية، استطاع توركيمادا إقناع البابا سيكست الرابع بإنشاء محاكم تفتيش خاصة على أرض الأندلس تكون بموجبها كل القوى الحاكمة تحت إمرة أحكامها وتشريعاتها.
وهكذا بعد تولي الملكة إيزابيلا الحكم سنة 1474م، استطاع هذا القس إقصاء معارضيه وفرض سلطة مطلقة على كل أراضي قشتالة وأراغون، وبعد سقوط غرناطة أسس محاكم التفتيش في كل القرى والمناطق، واختار قساوسة دربهم بنفسه على طرق الاستقصاء والمتابعة ليعطيه البابا لقب "المفتش الروحي الأعلى"، ثم تم إنشاء أول مراسيم محاكم التفتيش على يده أو ما سماه "مسودة محاكم التفتيش" ببنودها الـ28 الظلامية والإجرامية، التي أنشئت بموجبها "المجالس الملكية العليا والمطلقة لمحاكم التفتيش".
ويورد استاذنا محمد عبدالله عنان، رحمه الله، في موسوعته الخالدة "دولة الإسلام في الأندلس" وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، تتضمن طائفة من القواعد والأصول التي رأى ديوان التحقيق الإسباني أن يأخذ بها المسلمين المنصرين بتهمة الكفـر والمروق، وقد نقل عنان نصّ الوثيقة عن مؤرخ ديوان التحقيق الإسباني: الدون لررنتي، وتنص على ما يلي:
"يعتبر الموريسكي أو العربي المنصر قد عاد إلى الإسلام إذا امتدح دين محمد، أو قال إن يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلا رسولاً، أو أن صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يبلغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا كان قد رأى أو سمع أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية، ومنها أن:
يأكل اللحم في يوم الجمعة، وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل بيوم الجمعة بأن يرتدي ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلاً: باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده. أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، يقول إنه يجب ألا يعتقد إلا في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القران، أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة بأن يوجه وجهه نحو الشرق ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أو أن يتزوج طبقاً لمرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمسة، أو يملس بيديه علـى رؤوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم في أثواب جديـدة، أو يدفنهم في أرض بكر، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة ناعتاً إياه بالنبي ورسول الله، أو يقول إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول إنه لم ينصر إيماناً بالدين المقدس، أو أن آباءه وأجداده غنموا رحمة الله لأنهم ماتوا مسلمين".
وكانت هذه الممنوعات التي تصدر قرارات متلاحقة بتأكيدها وإضافة ممنوعات جديدة إليها إنما تهدف إلى إلغاء كل الشعائر الإسلامية إلغاء كلياً، وإلصاق الموريسكي بالعقيدة الكاثوليكية إلصاقاً كاملاً. وفي مثل هذه الأوضاع كانت محاكم التفتيش تتدخل في كل جوانب الحياة اليومية.
وأدت القوائم الطويلة من المحظورات، وما نجم عنها من ملاحقة مستمرة تقوم بها محاكم التفتيش إلى جعل هذه المحاكم في نظر الموريسكيين رمزاً للقمع، وأصبح كل موريسكي يشعر في كل لحظة بأنه موضع اضطهاد هذه المحكمة أو تلك.
لقد كان لمحاكم التفتيش الدور البارز لاجتثاث شعائر الإسلام القائمة، ودفع الموريسكيين إلى الاندماج التام في الإيمان الكاثوليكي، ولذلك تمكنت تلك المحاكم من التدخل في جوانب الحياة اليومية كلها، وسهلت كثيراً لكل كاثوليكي أن يقوم بدوره في إدانة الهراطقة متى كان لديه معلومات، فليس مستغرباً أن تكون محاكم
التفتيش في نظر الموريسكيين رمزاً للإرهاب والقهر، فكل موريسكي يمكن أن يُطارد في كل وقت من قبل تلك المحاكم، ومن أجل ذلك كان الموريسكي مضطراً للشك في كل من حوله.
وعن الملك فرناندو يقول المؤرخ الإسباني ثوريتا: "وكان مشهوراً لا بين الأجانب فقط، ولكن بين مواطنيه أيضاً، بأنه لا يحافظ على الصدق، ولا يرعى عهدا قطعه، وأنه كان يفضل دائماً تحقيق صالحه الخاص على كل ما هو عدل وحق".
وتوضح هذه الصفات التي ميزت شخصية فرناندو مبادرته إلى نكث عهوده، ومخالفته كل ما التزم به وأقسم بشرفه على الالتزام به للمسلمين بموجب، معاهدة تسليم غرناطة، فعقب تسليمها غدر بهم غدراً مثيراً، ثم آل الأمر إلى تنصيرهم قسراً، ثم اضطهادهم، ومطاردتهم بأقسى الوسائل، وأشدها إيلاماً لمشاعرهم وأرواحهم".
ولم يكن شارل الخامس (كارلوس أوشارلكان) بأفضل من جده فرناندو، فقد أصدر عام 1524 مرسوماً يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من إسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصير أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تقلب جميع المساجد الباقية في إسبانيا إلى كنائس.
كانت سجون محاكم التفتيش عميقة مظلمة رطبة تغصّ بالحشـرات والجرذان، ويصفد المتهم بأغلال حديدية ثقيلة قبل أن يلقى فيها، ويصف الدكتور لي (D Le ) في كتابه The Moriscos of spain
ما يلحق بالمتهم من أذى، ذلك أن أملاكه كلها تصادر وتصفى على الفور، وتقطع جميع علاقته بالعالم حتى تنتهي محاكمته. وتستغرق المحاكمة عادة من عام إلى ثلاثة أعوام لا يعرف السجين أو أسرته خلالها شيئاً عن مصيره، وتدفع نفقات سجنه من ثمن أملاكه المصفاة، وكثيراً ما تستغرق المحاكمة ذلك الثمن كله".
فديوان التحقيق كان يصادر جميع أملاك المتهم، ويديرها لحسابه، ومصاريف السجن التي يدفعها المتهم كانت باهظة جداً يتضاءل بجانبها أجر أفخم فندق في العالم في أيامنا هذه.
وكان المتهم يخطر بالتهم المنسوبة إليه، ويمنح عقب القبض عليه ثلاث جلسات في ثلاثة أيام متوالية وهي فرصة للإقرار والاعتراف بما جناه، تعرف بجلسات الرأي أو الإنذار وفيها يطلب إليه أن يقر بالحقيقة، ويوعد بالرأفة إن اعترف، وينـذر بالشـدة والنكال إذا كذب أو أنكر. ويتم الإيحاء إليه بأن الديوان المقدس لا يقبض على أحد دون قيام الأدلة على إدانته، وهي طريقة غادرة محيرة. وكان المتهم إذا اعترف بالتهم المنسوبة إليه، وكانت تهماً أقل من الكفر، اختصرت القضية، وقضي عليها بعقوبة خفيفة، ولكنه إذا اعترف بأنه مسلم فلا ينجو من الموت مهما كانت الظروف، ومهما كانت الوعود التي بذلت له، أما إذا رفض المتهم الاعتراف بعد الجلسات الثلاث فإن النائب يضع له قرار الاتهام طبقاً لما ورد في التحقيق من وقائع حتى وإن كانت الأدلة المقدمة ركيكة ضعيفة". وأفظع ما يحتويه قرار النائب هو إحالة المتهم إلى التعذيب، وقد يحال رغم إقراره بالتهمة وذلـك للحصول على معلومات أخرى جديدة قد تكشف عن حلية كافرة جديدة.
وكان التعذيب يتم على أيدي الجلادين المحققين والطبيب إذا اقتضى الأمر،ولا يبلغ المتهم بأسباب إحالته إلى التعذيب، ولا يُسأل ليقرر وقائع معينة، وإنما يعذب ليقرر ما شاء، ويمكن الطعن في القرار بطريق الاستئناف أمام المجلس الأعلى "السوبريما"، لكن الاستئناف لا يقبل إلا في أحوال استثنائية، وعلى كل حال يعتبر الاستئناف نوعاً من الطعن في القرار، وهو أمر لا يقبل ولا ينظر لأن القانون صريح في وجوب إجراء التعذيب!
ويأتي دور الطبيب عندما تتعرض حياة المتهم للخطر، ولا يتمثل هذا الدور في المعالجة وإنما بالأمر بالكف عن التعذيب حتى يزول الخطر عن المتهم، كأن يعود إلى رشده، أو يجف ألمه وتلتئم جراحه النازفة، وعندئذ يعاد إلى جلاديه لاستئناف التعذيب حتى يعترف.
وكان اعتراف المتهم لا يعد صحيحاً إلا إذا قرر القضاة ذلك، وهم لا يفعلون إلا إذا تضمن الاعتراف عنصر التوبة. وعندئذ يكفّ عن تعذيبه. أما إذا استطاع المتهم احتمال العذاب، على الإنكار، فإن إنكاره لا يفيده بشيء لأن القضاة غالباً ما يتخذون من الوقائع المنسوبة إليه أدلة على الإدانة، ويحكم عليه انطلاقاً من هذا الاعتبار!
وعلى كل حال كان المتهمون من الموريسكيين لابد من تعذيبهم، بغضّ النظر عن الظروف، وسواء اعترف الواحد منهم أو لم يعترف، وبغض النظر عن خطورة التهم المنسوبة اليهم!
وإذا صدر قرار المحكمة بإدانة المتهم، فإن هذا القرار لا يبلغ له إلا عند التنفيذ،
حيث يؤخذ المتهم من السجن دون أن يعرف مصيره الحقيقي، وأولى الخطوات عندئذ هي مراسم الإيمان (الأوتو دافي Auto defee) التي يجب على المدان اجتيازها، وتتلخص هذه المراسم الدينية التي تسبق تنفيذ الحكم في اضطرار المدان إلى ارتداء الثوب المقدس، ثم يوضع في عنقه حبل، وفي يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة ليجتاز مراسم التوبة، ثم يؤخذ إلى ساحة التنفيذ، حيث يتلى عليه الحكم لأول مرة. وقد يكون الحكم في حالة التهم الخطيرة السجن المؤبد والمصادرة أو الإعدام حرقاً في حالة الكفر الصريح (أي اعتراف المتهم بأنه ما يزال على دين الإسلام).
وفي حالة الذنوب الخفيفة قد يكون الحكم هو السجن لمدة محدودة أو الغرامة، وكانت أحكام الإعدام هي الغالبة في قضايا الكفر.
وكان تنفيذ الأحكام، خاصة الإعدام والحرق، يقع في ساحات المدن الكبيرة، وفي احتفال رسمي يشهده الأحبار والكبراء بأثوابهم الرسمية، وقد يشهده الملك. وكانت هذه الأحكام تنفذ في المحكوم عليهم بالجملة، وقد يبلغون العشرات الذين ينفذ فيهم الحكم أمام جموع الشعب التي تهرع لمشاهدتها. ومما يذكر في هذا المجال أن الملك فرناندو الكاثوليكي كان يعشق مواكب الإحراق الرهيبة، ويحرص على مشاهدة حفلات الإحراق، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن قانون محاكم التفتيش كان يجيز محاكمة الموتى والغائبين، وتصدر الأحكام في حقهم، وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، حيـث تصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ، فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم، ويستخرج رفاتهم لحرقها، وكان أثر الأحكام يتجاوز المحكومين أحياناً إلى ذويهم، حيث كانت المحكمة تقضي بحرمان أهل المحكوم مثل والده وأبنائه من تولي الوظائف العامة، وامتهان بعض المهن الخاصة، وبذلك يؤخذ البريء بذنب المحكوم عليهم!
وهكذا أكون في هذا المقال قد حاولت استعراض جزء بسيط من المحنة التي مرّت بها الأمة الأندلسية عقب سقوط غرناطة، ولم أتطرق إلى ثورة البشرات وما حدث بعدها من تهجير وتشريد وطرد الأندلسيين فهذا يحتاج إلى مقال مطول آخر.
-المصادر:
1- دولة الإسلام في الأندلس – محمد عبد الله عنان.
2- الدين والدم "إبادة شعب الأندلس" – ماثيو كار.
3- الأندلس.. التاريخ والحضارة والمحنة – محمد عبده حتاملة.
4- الأمة الأندلسية الشهيدة – عادل سعيد بشتاوي.
5- حركة المقاومة العربية الإسلامية في الأندلس بعد سقوط غرناطة – عبد الواحد طه.
6- المسلمون المنصرون أو الموريسكيون الأندلسيون – عبد الله محمد جمال الدين.
7- الموريسكيون الإسبان – الأسقف دون باسكوال بوروناث.
8- الموريسكيون في الفكر التاريخي – ميجيل انخيل بوريس ايبارا.
9- محاكم التفتيش نشأتها وتطورها – إسحق عبيد.
10- المسلمون المدجنون في الأندلس – حسين يوسف دويدار.
11- مذابح وجرائم محاكم التفتيش في الأندلس – محمد علي قطب.
12- محاكم التفتيش في إسبانيا – رمسيس عوض.
13- محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال وغيرها – علي مظهر.
14- التاريخ الوجيز لمحاكم التفتيش – جوزيف بيريز .
15- أبرز ضحايا محاكم التفتيش . جاليليو . سافونا رولا . برونو – د. رمسيس عوض.
16- المورسكيون ومحاكم التفتيش في الأندلس 1492 -1616 – د. عبد الله حمادي.
17- الأندلس.. من السقوط إلى محاكم التفتيش – أحمد محمد عطيات.
18- العرب والمسلمون في الأندلس بعد سقوط غرناطة – هنري تشارلس لي.
19- نهاية الوجود العربي في الأندلس – علي حسين الشطشاط.
20- وتذكروا من الأندلس الإبادة – أحمد رائف.
21- The Moriscos of Spain – dr Le.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.