لن يعود أبي إلى صرفند العمار

تم النشر: 2019/01/01 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/01 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش
A Palestinian stands above a village on the outskirts of the West Bank town of Bethlehem.

هل ثمة شيء أصعب على الإنسان من أن يأتي شخص مجهول الهوية والنَّسَب وخالٍ من أي أخلاق فيهدم بيَته، ويأخذ أرضَه، ويقتل مَن يتمكن مِن قتلهم، ويصبح بين عشية وضحاها المالك والمتصرف في الحق، بينما صاحب الحق يصبح، بفعل قوة الغاصب، يبحث عن مأوى؟

هل من السهل على الإنسان الذي وجد مأوى يريح جسده، أن يجد دواء يعالج ثورة الاشتياق التي تغلي في نفسه، حيث إنه ممنوع من أن تتعانق روحه مع أرضه وشمس سمائه، ومحروم من أن يسهر تحت ضياء قمره مع أهله ورفاقه، وغير مسموح له بالتمتع بجداول الماء التي تجري في بستانه، فقط مسموح له بأن يموت في العمر كثيراً، ويموت اشتياقاً لرفاق دربه، وحواري كان بها يلعب، ودروب كان بها يلهو، لحقل كان يزرعه برفقة والده وجده، وبئر ماء كانت يأخذ منها الماء ليسقي نفسه وغيره، لبساطة الحياة، لعلاقات ليس فيها تكلُّف، لطبيعة كل ما فيها ينبض بالحب وبالجمال؟

آه.. ما أقسى أن يقتل الحنين الإنسان وهو على قيد الحياة، دون أن يكون هذا الإنسان قادراً على تلبية وتحقيق أبسط أمانيه وأن يُكحل عينَيه برؤية مسقط رأسه قبل أن يوارى الثرى؟!

في حالتنا الفلسطينية ينطبق علينا ما سبق من بوح مؤلم، فقد تعرَّض الشعب الفلسطيني لاحتلال صهيوني قذر منذ قرن من الزمان، ولسان حال كل واحد من الشعب يقول: (نُفيت واستوطن الأغراب في بلدي.. ودمَّروا كل أشيائي الحبيـاتِ).

جاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين بعدما روَّج أن فلسطين أرض بلا شعب، واعتبار اليهود شعباً بلا أرض، فيجب أن تكون فلسطين هي أرضاً لليهود؛ لتقام عليها دولتهم التي وعدهم الله بها كما يزعمون زوراً وبهتاناً، وهذا جاء في سفر التكوين (لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النّهر الكبير، نهر الفرات)، فدمر الاحتلال الصهيوني قرى كاملة، وعاث في الأرض فساداً.

ومن القرى التي احتلها الصهاينة وطردوا أهلها منها هي قريتي قرية "صرفند العمار"، هي قرية فلسطينية تقع على السهل الساحلي من فلسطين، تبعد حوالي 5 كيلومترات شمال غرب الرملة، كان عدد سكانها 1٫950 في عام 1945 وتبلغ مساحة أراضيها 13٫267 دونم، ومن أشهر عائلات صرفند العمار عائلة أبوالسعود، ونوفل، الغول، سند، جحيش، المشوخي، حماد، نصر الله، عويضة، العطار.

لماذا لن يعود أبي إلى صرفند العمار؟

أبي من الجيل الذي دفع ثمناً باهظاً منذ اللحظة الأولى لاحتلال فلسطين فقد عاش مرارة الهجرة واللجوء بعدما أُجبر على ترك قريته بفعل قوة النار الصهيونية، فترك بيته وذكرياته على أمل العودة، هاجر أبي -كما كان يُحدثنا- من صرفند العمار وهو ابن 12 عاماً، وفي طريق الهجرة الذي لم يكن وردياً، لقى أبي وعائلته الكثير من أصناف العذاب من الصهاينة ملاحقة وقتلاً، حتى وصلوا إلى القرية الفلسطينية "جفنة" التي تقع على بُعد كيلومتر ونصف إلى الشرق من مدينة بيرزيت، واقترح بعضهم أن يستقروا فيها، لكن جدّي رغب أن يلحق بباقي أبناء العائلة الذين ذهبوا إلى غزة، فذهبوا إلى غزة واستقر بهم المقام في مدينة رفح على الحدود المصرية – الفلسطينية.

وأمام إجرام بني صهيون، آمَن أبي طيلة حياته بأن الحق المسلوب لا تُرجعه الدموع، وأن الحل مع الصهاينة هو النار بالنار، ومَن يؤمن بغير ذلك فقد خان الله ورسولَه، ولا يفهم سُنن التاريخ.

لن يعود أبي إلى صرفند العمار؛ لأنه قد قضى نحبه في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2018 بعد أن قضى ثمانية عقود من عمره ينتظر العودة إلى مسقط رأسه في صرفند العمار، لكن مشيئة الله كانت فوق مشيئة البشر (وما تدري نفس بأيّ أرض تموت)؟ رحم الله أبي وكل أموات المسلمين.

مات أبي،  وترك حزناً كبيراً في قلوب كل مَن عرفه، حتى أطفال الحي حزنوا عليه؛ لأنه كان يمثل لهم رمزاً كبيراً جداً في عالم الحنان والرأفة والسرور، وكان أطفالي حينما يأتي والدي ووالدتي لزيارتنا كأنه يوم عيد، بل يوم لا توصف فيه فرحة الأطفال.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مصطفى أبو السعود
كاتب وباحث فلسطيني
تحميل المزيد