إن الحديث عن العرب، يعني الحديث عن أمة حية، عبر التاريخ، وإن كانت تعرضت لهزائم وانتكاسات، ومرّت بحقب مظلمة. إلا أنها كما الأمم الأخرى، كانت تنهض بين الحين والآخر وتنفض عن نفسها غبار الإحباط، وتعود لتأخذ دورها بين الأمم الأخرى المجاورة. إلى أن جاء الإسلام فشكّل تحولاً نوعياً وكمياً في شؤون الحياة كافة، وفي المجالات الأدبية والعلمية والفلكية والطبية… إلخ.
وهناك إقرار من علماء الغرب بأن بعض العلوم الطبية ما كانت لتكون لولا دور العرب في تطويرها والمحافظة عليها. إذ تقول المستشرقة الألمانية (زيكريد هونكه) في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب: "فرع الجراحة يدين للعرب بتقدمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن الحقيرة الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهنة الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، فإلى العرب وحدهم يعود فضل رفع هذا الفن العظيم إلى المستوى الذي يستحقه، وإليهم وحدهم يرجع فضل بقاء هذا العلم".
إذا كان هذا حال الطب عند العرب والمسلمين، في أوج حضارتهم، فإن العلوم الأخرى ليست أقل شأناً ولا مستوى من حيث الإبداع والتميز والتطور، وحالياً، من الجدير الالتفات إلى أن لعلمائنا أدوار بارزة وواضحة في الحضارة الغربية، إلا أن هؤلاء العلماء هم أدمغة مهاجرة تحمل الهوية العلمية الغربية؛ لأن الهوية تعود إلى تلك البيئة التي احتضنتهم ورعتهم ووفرت جميع عوامل ومحفزات الإبداع والتميز، في حين أن مجتمعاتهم الأصلية أخذت دور القوى الطاردة المنفرة التي جعلتهم يستقرون في الغرب ولا يفيدون مواطنهم الأصلية بشيء، سوى الحنين إلى طفولتهم المعذبة والبائسة!
من هنا تبرز أهمية دور العلماء العرب في بناء المجتمعات العربية، ومدى حاجة الأمة العربية لا سيما في ظل الأزمات والكوارث المتصاعدة في عالمنا الحالي، ولا شك أن مسؤوليتهم كبيرة عظيمة تتنامى مع التطورات المتصاعدة التي تشهدها الأمة العربية، وهذه مسئولية العلماء والتي هي امتداد لمسؤولية الأنبياء، فدور العلماء يتمثل في المواقف والمراكز والأحداث؛ فهم ثروة علمية تنبع نوراً ومنارة للوصول إلى أمة رائدة خالدة تضيء معارف الكون سعادة، وإشراقات ترتوي منه الحضارات المختلفة.
ومن هنا نقول إن علماءنا هم السراج المنير. وهم بحق نموذج حي لتواصل الأجيال العلمية؛ هم رصيد أمننا القومي الذى يجب أن نحرص عليه جميعاً؛ لذا لا بد من التصدي بكل سرعة وحسم لحل مشاكلهم جذرياً من خلال مراجعة استراتيجية شاملة؛ كما نأمل أن تكون هناك آذان صاغية وعيون مبصرة من كافة أجهزة الدولة المعنية للحفاظ على ما تبقى من رصيد شباب علمائنا معافى من كل أنواع الإحباط والاغتراب قبل أن نفقد البقية الباقية منهم على أرض الواقع، وفى هذا خسارة فادحة للأمة العربية والإسلامية ولمستقبل أجيالها.
إن العقول المبدعة في أمتنا العربية والإسلامية اليوم تعانى كثيراً، وتتألم طويلاً بسبب ضعف مناخ الإبداع في دول العالم العربي والإسلاميّ، وعدم توفّر مناخ الحرّيّة الذي يحفّز على العطاء والتّفكير والإنجاز، فالمفكّرون يعانون كثيراً من القيود التي تفرض عليهم، كما يعانون من القوانين التي تكبح جماح طموحهم وإبداعاتهم، بالإضافة للبطالة وعدم الاهتمام والتهميش وسحابة مظلمة من الفساد الكبير؛ يلخصها الشاعر لبيد بن الأعوص حين قال قديماً:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ **** والماء فوق ظهورها محمول
إن ندرة وجود مراكز مجهّـزة للبحث العِـلمي، فضلاً عن عدم وصول المجتمع العربي إلى مرحلة الرّبط بين النشاط العِـلمي والتكنولوجي، واحتياجات المجتمع وعدم وجود استراتيجيات أو سياسات واضحة ومحدّدة لدى مُـعظم الدول العربية في مجال البحث العِـلمي، إضافة إلى ضعف المخصّـصات المالية المرصودة في مُـوازنات معظم الدول العربية، كما أن ظاهرة هجرة العقول العربية المتصاعدة والمشاكل الداخلية الباهظة لها عدّة آثار سلبية على واقع التنمية في الوطن العربي، ولا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية فحسب ولكنها تمتد إلى التعليم في الوطن العربي وإمكانيات توظيف مخرجاته في بناء وتطوير قاعدة عربية، فالقيادة العربية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تضع استراتيجية تنموية شاملة للاستفادة من العقول العربية المفكرة والعلماء والاحتفاظ بهم وتسخير كافة الإمكانيات والقوى اللازمة للحفاظ على هذه الثروة البشرية العظيمة.
لا ينكر صناع القرار والمفكرون كافة التقارير الدولية والمحلية والدراسات الحديثة، أن خسارة القدرات البشريّة المتخصّصة تفقد الأمة العربية والإسلامية مورداً حيوياً وأساسياً في ميدان تكوين القاعدة العلمية للبحث العلمي وصناعة المعرفة ومواكبة التقنيات الحديثة، وعلاج المشكلات المتعددة التي تستوطن الوطن العربي، وتبدّد الموارد المالية العربية الضخمة، التي أُنفقت في تعليم هذه المهارات البشريّة وتدريبها، والتي تحصل عليها البلدان الغربية بأدنى التكاليف. ففي وقت يهاجر فيه أو يُـضطر أو يُـجبر على الهجرة مئات الآلاف من الكفاءات العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، تدفع البلدان العربية أموالاً طائلة لاستجلاب خِـبرات دولية!
ويبقى السؤال الاستراتيجي على طاولة صانعي القرار في أمتنا: إلى متى ثروات الأمة بعيدة عن التوظيف لصالح أبنائها؟ ومتى سنرى الخطط التنفيذية لاستعادة تلك العقول التي هجّرناها قسريا؟! لتأخذ دورها في نهضة الأمة وإعادة وضعها على خريطة العالم العلمية والاقتصادية ومن ثَم على الخريطة السياسية التي تعني أن يحسب لها ألف حساب بين أمم المعمورة قاطبة!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.