الخطاب الديني هو موضوع قديم حديث أثير حوله الكثير من اللغط والكلام، فمنذ نهاية القرن 19 وبداية الـ20 ظهر الكثير ممن يثير الفكرة ويحاول أن يطرحها بكل أوجه الطرح من حيث إعادة الفهم لمقاصد الشريعة والتقرب إلى الحداثة الأوروبية بحكم الاحتلال الجاسم على معظم البلدان الاسلامية الذي جعل الكثير من الأدباء أمثال طه حسين يقول بحتمية الأخذ عن الغرب كل شيء حتى الذر في الأعين (هذا في إحدى مراحل حياته الفكرية المتغيرة)، وأيضاً نرى من السياسيين من ينشد التقدم والحداثة حتى ولو ضحى بقضية بلاده أمثال أمين عثمان الذي قتلته كلماته بأن مصر وبريطانيا في مراحل الزواج الكاثوليكي الذي لا طلاق فيه.
وبالعودة للخطاب الديني الذي ألمح وصرح به العديد من الذين يظهرون علينا ليل نهار ويتطرقون إلى الحديث عن الخطاب الديني وربط المفاهيم الإسلامية بالإرهاب الذي يضرب العالم، وعلى رأسهم رأس النظام المصري في مناسبات عديدة مع قيادات أزهرية وغيرها من مناسبات وأحاديث إعلامية تجاوز فيها كل من سبقوه من حكام مصر في التطاول على رأس المؤسسة الأزهرية، ووصل به الأمر إلى التهكم بقوله: "تعبتني يا فضيلة الإمام"، في إشارة منه إلى عدم التجاوب مع أطروحاته الخرفاء التي لم يأت بها حاكم أو عالم دين، وأشهرها قضية الطلاق الشفهي الذي لا يقع دون عقد طلاق موثق وعدم الأخذ بالكلمة الشفهية.
بل لم تكتفِ المؤسسة الأزهرية بعدم الانصياع لرغبات السيسي في التجديد الديني بل أصدر الأزهر بياناً مفاده أن الطلاق يقع بمجرد النطق به، وهذا ما اتفقت عليه الأمة.
وهل المقصود بالتجديد هو المساس بالثوابت والأسس التي تعارف عليها المسلمون منذ 1400سنة، أم ما يتقول به علينا السيسي وإعلامه بأنه الفهم الجديد للإسلام، وكأن العقول السالفة كانت لم تخلق في رؤوس أصحابها ولم يأتيهم الفهم الذي أتى المجدد السيسي (مصر) أو الملهم محمد بن سلمان (السعودية) أو المحدث السبسي (تونس).
لا يا سادة إنه حق أريد به باطل وذريعة الإرهاب والفكر المتطرف لا تنطوي على الصغار.
فمتطرفو الفكر ليسوا بجديد على الإسلام ولا المسيحية ولا غيرهما من الأديان، فالخوارج وفرسان الهيكل ممن ادعوا أنهم أصحاب الحق الإلهي ومن دونهم كفار مارقون من الدين كانوا موجودين وسيظلون، لكنها التغريبة وإرضاء الغرب بشتى السبل حتى لو أجُبر حكام المسلمين أن يولوا وجههم قبل البيت الأبيض أو الكرملين أو الإليزيه.
ونقصد بالتغريبة أي البعد عن جوهر الدين والإسلام وادعاء التمدين والتحضر بالتملّص من الثوابت كالحجاب والميراث وإدخال الأفكار الشاذة على مجتمعاتنا العربية، كتقنين بيوت البغاء والمخدرات، حتى وإن لاقت هذه الأفكار هجوماً من أفراد المجتمع الآن فسيأتي الزمان الذي يكون فيها السائد هو تلك الأفكار ويكون مجرد مناقشتها رجعية وتخلّف.
فلك أن تتخيل أن مجرد كتاب ناقش فيه كاتبه فكرة أن الخلافة ودولة الإسلام ليسا من الثوابت في الإسلام، وأنه يجب الفصل بين الرسول الحاكم والمشرّع، قامت عليه الدنيا وجُرد من شهادة العالمية وعُزل من وظيفته كقاضٍ شرعي وهو الشيخ علي عبدالرازق وكتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، وكان ذلك في العشرينات من القرن العشرين، أما اليوم فالأمر مستساغ وفي غاية اليسر في الطرح ولا يجد من ينحى ذلك المنحى أي معارضة من الأزهر أو غيره، بالرغم من تراجع الشيخ نفسه عن الكتاب.
ومع اختلافنا في تناول الكتاب وطريقة معالجته وفهم الشيخ ولكننا نعترض على الأسلوب الذي تم التعامل به مع الشيخ من قبل الأزهر الشريف.
والتجديد ليس التبديل أو الانحراف عن المنهج الثابت بل هو التعامل مع مستجدات الأمور بما يتوافق مع شرائع رب العالمين، ومثال ذلك قضية البنوك التي قُتلت بحثاً حتى ظهرت البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال التي لاقت الاستحسان من كثير من المسلمين لولا محاولات الإفشال والتشويه المقصود والمتعمد من النظام المصري بغرض الاستئثار على مدخرات المصريين من خلال البنوك الربوية التي لا تقوم بالدور الحقيقي لبناء اقتصاد قوي، كما أراد له طلعت حرب من خلال إنشائه بنك مصر ليكون نواة لبناء اقتصاد قومي قوي بتمويل مصري في مجالات شتى، وما أشبه اليوم بالبارحة فلاقى الرجل من المؤامرات ما جعل مشروعه حلماً لم يتحقق.
الخلاصة: التجديد كما يدعيه المتغربون أيامنا هذه هو أمر لابد من مقاومته ومجابهته، وهذا ليس من باب التسلّف أو الجمود الفكري بل من حماية جوهر الدين من التغريب والإتيان بما ليس فيه، أما ما نحتاجه فعلاً فهو نشر الفهم الصحيح الذي أجمع عليه علماء الأمة القدامى والجُدد والحمد لله لم تخلُ الأمة ممن يجدد لها أمر دينها.
فقال الصادق المصدوق: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها"، رواه أبوداود.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.