الأمر يحتاج إلى صدفة أكثر من إشعال نار.. هذه الأمور قد تكون أسباباً في جمود الشرق الأوسط عن ربيع عربي جديد

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/28 الساعة 15:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/28 الساعة 15:58 بتوقيت غرينتش

في العام 2013، وبعد نجاح حملة "تمرد" المصرية في إسقاط "حكم جماعة الإخوان المسلمين" وتسليم البلد للجيش وقائده الانقلابي، استفاقت عدد من الهيئات السياسية والنقابية والشبابية في عدد من الدول العربية من سباتها الشتوي واستسلامها للواقع الجديد المتلون "إسلامياً"، وأعلنت عبر الفضاء الافتراضي، في الأغلب، عن ولادة حركات "تمرد" بتونس وليبيا واليمن وغزة والمغرب وغيرها.

لم يعلم هؤلاء أن "تمرد" المصرية نشأت في بيئة حاضنة سمحت لها بالنمو و"النجاح"، تحت رعاية قوى مختلفة داخلية وخارجية تملك من الإمكانيات ما يجعلها تدير العقل الباطن المصري كما تشاء. لكنها كانت حالة "تقرد" شملت هذه الدول في زمن قل فيه الإبداع والخلق وابتكار أساليب تتماشى وخصوصية البلدان وشعوبها.

نزعة الجمود التي ألمت بكثير من "مناضلي" تلفزيون الواقع والفضاء الافتراضي لم تكن وقتها جديدة، بل شكلت استمراراً لعملية "استنساخ" للفعل الثوري لم تجتهد حتى على مستوى الشعارات والمفردات حتى صرنا نسمع في المغرب، على سبيل المثال، عن بلطجية وشبيحة وفلول وهلم "جموداً".

في تونس، لم يصدق كثير من "أبطال" السياسة الجدد أنفسهم وهم يرون نظام الإخوان يتهاوى بمصر، التي تباهوا في السابق أنهم صدروا "الثورة" إليها بعد استيقاظهم ذات 14 يناير على "هروب" مريب لبن علي فقالوا هي "الثورة" أنجزناها ولنا حق احتكار علامتها التجارية دوناً عن الباقين، فسارعوا إلى تمثل الخطوات المصرية من إطلاق لحملة "تمرد" تونسية وإعلان لتأسيس "جبهة إنقاذ" لإسقاط الحكم "الإسلامي" واستعادة البلاد المخطوفة إلى حضن التحضر والانفتاح.

لم يكن ينقصهم يومها غير البحث عن "سيسي" تونسي يكمل المهمة بطلاً متوجاً للأمة وكادوا ينجحون في المهمة فلهم بدل السيسي "سبسي" وهو أيضاً "قائد" ولو لم يكن عسكرياً.

أثبت فشل تمثل تجربة "التمرد" المصرية أن الثورات لا تستنسخ ولو كانت مضادة أو مدارة من نفس غرف التحكم بالإمارات والسعودية وغيرها من بلدان الردة العربية وأبواقها. لكن مرور ما يزيد عن سنوات خمس لم يستطع تحويل أنظار "الثوار" عن تمثل التجارب التي قد تكون حققت نجاحات في بلدانها، دون أن تكون بالضرورة نموذجاً يحتذى في المظهر دون النفاذ لجوهر وعمق التحركات على الأرض وترتيباتها.

في فرنسا، لم يعلم الشعب العربي بوجود حركة أسمت نفسها حركة "السترات الصفراء" إلا بعد اندلاع النيران بباريس وتصاعد الأدخنة من جادة الشانزيليزيه، على إثر مواجهات بين القوى الأمنية ومجموعات يسارية ويمينية متطرفة اندست وسط المتظاهرين، فاعتبروا الأمر "حراكاً ثورياً" ونموذجاً يصلح الاقتداء به، لعله يكون فاتحة خير ثورية على دول الربيع العربي، في محاولة لاستعادة المبادرة التي انفلتت من بين أيدي الشعوب وتملكها المستبدون من جديد.

لم يدرك الحالمون بـ"سترات صفراء" عربية أن قصة السترات الفرنسية تهيأت لها ظروف النجاح بفعل عمل تعبوي غير تقليدي بدأ بدعوة أعقبت قرار الحكومة الفرنسية بالزيادة في أسعار الوقود في نهاية شهر مايو/أيار الأخير، على شكل عريضة أطلقتها بريسيليا لودوسكي على فيسبوك، وهي امرأة تشتغل بائعة أدوات تجميل في ضواحي باريس، ليفوق عدد الموقعين عليها المليون شخص. ومع مرور الوقت بدأت المبادرات تتناسل داخل الحركة من خلال دعم المشاهير لها وإطلاق سائق شاحنة يدعى إيريك درويت دعوة لقطع الطرقات بما يشكله ذلك من قطع لشرايين الاقتصاد الفرنسي قبل بدء أولى الفعاليات على الأرض في السابع عشر من شهر نوفمبر/تشرين ثاني.

لأن المجتمعات العربية تعاني من ضعف في المخيلة وتصلب في شرايين الإبداع والخلق، فقد تنادى كثيرون للتبشير بثورات "صفراء" وكأن الحل السحري للنجاح كان في نوعية الثياب أو لون السترات.

لم يكن اختيار شعار الحملة الاحتجاجية وتبني اسم "السترات الصفراء" اعتباطياً بل منطلقاً من واقع عَقْد مواطَنة يربط المواطن بالسلطات العمومية، من خلال مادة إلزامية في القانون الفرنسي تلزم قائد أية سيارة معطلة بالنزول منها وركنها جانباً، قبل ارتداء السترة الصفراء لجذب أنظار السائقين الآخرين والسلطات إليه لتقديم المساعدة والدعم اللازمين له.

ارتداء السترة الصفراء إذن دليل معاناة وأزمة تتطلب المساندة والدعم ولفت انتباه السلطة والمواطنين على السواء، وهو ما جعل فلسفة التحرك الاحتجاجي تنتشر بسرعة وتلقى دعم الغالبية العظمى من الشعب الفرنسي، بما مثله ذلك من ضغط شعبي هو أكثر ما يخشاه الساسة وقادة البلاد المرتبطون بمواعيد انتخابية يقرر الشعب فيها اسم حاكمه بحرية واستقلالية لا تؤثر فيها سلطة عسكرية أو أجهزة أمنية تدين بالولاء للسلطة أو أموال قذرة أو "رز" يوزعه "الأشقاء" على الأتباع وأداة لتجارب ديمقراطية تسهل استبداد حكامها واستعبادهم للشعوب واحتكارهم للثروات.

حققت "السترات الصفراء" الفرنسية جزءاً كبيراً من مطالبها التي تعدت التراجع عن الزيادة في أسعار المحروقات إلى زيادات في الأجور وتخفيضات في الضرائب، والأهم تحريك مياه السياسة الفرنسية الراكدة في أفق تجديد طرق التمثيلية الشعبية بما يسمح للمواطنين بالتأثير المباشر في إقرار القوانين وتغييرها.

ولأن المجتمعات العربية تعاني من ضعف في المخيلة وتصلب في شرايين الإبداع والخلق، فقد تنادى كثيرون للتبشير بثورات "صفراء" وكأن الحل السحري للنجاح كان في نوعية الثياب أو لون السترات.

في المغرب، صارت الإضرابات الفئوية تتلون بالأصفر والأسود وهلم ألواناً. وفي لبنان دعوات "سترات صفراء" للتظاهر في غياب حكومة تأخرت ولادتها وتعطلت معها مصالح البلاد والعباد ترضية لأمراء سياسة كانوا إلى وقت قريب أمراء حرب أغرقوا البلاد في حرب أهلية لا تزال تداعياتها ترتهن القرار الوطني وتمنع البلاد من الانطلاق. وفي الأردن ظهرت دعوات لتحرك شماغ حمر أما في مصر، حيث النظام الانقلابي متهيب ككل سنة من تاريخ الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، فقد كانت لغة الاعتقال، خوفاً من انتقال العدوى، الرد الأوحد في مواجهة محام حقوقي بادر إلى الظهور علناً على صفحته على مواقع التواصل مرتدياً السترة الصفراء العجيبة، فاعتبر النظام العسكري الأمر تهديداً للأمن العام.

التونسيون كانوا أكثر "حماساً" بالنظر إلى طبيعة الصراع الملتهب في البلد على سلطة يريدها البعض مركزة في يد الرئيس/الأب ضداً على بقية الأفرقاء، فظهرت حركة "السترات الحمراء" للتنديد بالوضع الاجتماعي مقابل "سترات زرقاء" تطالب بوقف التظاهرات والتركيز على العمل والإنتاج. انتهى تحرك "السترات الحمراء" بانتهاء الندوة الصحفية التي عقدها الواقفون/الظاهرون وراءها ولم يظهر لها من أثر في الشارع قبل أن "يفاجأ" بلد "ثورة الياسمين" بشاب يحرق نفسه "من أجل أبناء القصرين الذين لا يملكون مورد رزق"، كما قال عبد الرزاق الزرقي، قبل أن يضيف: "اليوم سأقوم بثورة، سأضرم النار في نفسي".

رأس محمد البوعزيزي يطل من جديد على تونس في نفس تاريخ بدء "الثورة" في قبل ثماني سنوات، لكن تكرار التجربة بنفس التفاصيل ضرب من الأحلام.

الأكيد أن أسباب انطلاق الثورات لا تزال قائمة إن لم تكن قد تنامت، لكن اندلاع الشرارة يحتاج "صدفة" أو عملاً ميدانياً منظماً بعيداً عن الترف "الثوري" الذي يكتفي بتمثل احتجاجات من وراء البحار، استمراراً للتأثير الكولونيالي في الأفراد والجماعات، ممن أسماهم الرئيس السوداني عمر البشير "مناضلي الكيبورد"، وهو الرئيس/ الصدفة الذي استمر في الحكم ثلاثين سنة ويسعى للمزيد. احتجاجات السودان التي يحاول كثيرون التغطية عليها قد تكون بادرة أمل وشرارة منبعثة من معاناة حقيقية استمرت لعقود في إهدار المقدرات الاقتصادية والثروات الطبيعية وتقسيم البلاد إلى شمال وجنوب في انتظار أن تمتد أيدي التقسيم لأطراف أخرى تحول البلاد لمجرد فسيفساء دويلات عرقية.

إلى سلطة السودان وصل البشير بانقلاب، وقد يغادر بانقلاب أو ثورة والأمر في العرف العربي سيان.

عربي 21 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
طارق أوشن
ناقد سينيمائي وكاتب ومدوّن مغربي
تحميل المزيد