تحدثت قبل فترة مرةً مع أحد المستشارين الأميركيين عن الحق الذي يمنحونه لأنفسهم في التحكم بالسياسة العراقية، وأن هذا التصرف لا يمكن قبوله؛ لأنه يهدد سيادة العراق، فأجابني بكل صلافة وهدوء قائلاً: "هل تعلم أننا نعتبر السياسيين العراقيين كأنهم قطط صغيرة نرمي لهم ما تبقى من الفضلات كالبارود والأسلحة الخفيفة، وندعهم يتصارعون حتى يخنقوا بعضهم، بعد ذلك نجرهم إلى ساحات القتال، وهناك يتناحرون ثم يلجأون إلينا من جديد كي نتحكم بهم".
قصة زيارة ترامب
تهتز أركان الحكومة برئاساتها الثلاث إثر زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للعراق، وهو ثالث رئيس أميركي يزور العراق بطريقة غير معلنة ودون التنسيق المسبق مع المسؤولين في الدولة، فكانت البداية مع جورج بوش الابن عام 2003 قبل الاحتلال، فزيارة سرية أخرى لباراك أوباما عام 2009، ثم الأخير صاحب القرارات الهستيرية دونالد ترامب عام 2018، إذ يختلف الأخير بأنه الوحيد الذي لم يلتقِ بعد الإنتهاء من زيارته السرية بأي مسؤول عراقي بخلاف الآخرين، فتوجه ترامب نحو قاعدة عين الأسد بمحافظة الأنبار للاحتفال بعيد الميلاد مع الجنود الأميركيين، ليعلن عن خطته بشأن الوجود العسكري في العراق، وخصوصاً بعد انسحاب قواته من سوريا، وتأتي الزيارة بعد أيام من الإعلان عن استقالة وزير الدفاع الأميركي، جيم ماتيس، بسبب خلافات مع ترامب حول الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، وحسب إحصائيات البنتاغون فمازال هناك نحو 5000 جندي أميركي في العراق لدعم الحكومة في حربها ضد ما تبقى من تنظيم داعش.
لكن السؤال الأهم: أين الجهاز الأمني والاستخباراتي وسلطة الطيران الجوي في العراق؟
يبدو أن العراق يعيش أسوأ أيامه بسبب المحاصصة الحزبية والتواطؤ السياسي الداخلي مع الأجندات الخارجية والاتفاق على توقيع صفقة عالمية لبيع العراق حكومةً وشعباً.
الوجود الإيراني وسياسة السكوت
في الوقت الذي تصاعدت فيه أصوات قادة الأحزاب في العراق وتهديدهم بطرد القوات الأميركية بعد زيارة ترامب دون إذن مسبق، ترتفع شعارات الاستنكار وتتطاير في المنصات الإعلامية معترضة على انتهاك سيادة الدولة العراقية.. لكن في هذه الأوقات يجدر بنا العودة إلى تاريخ عام 2014، والتدخل الإيراني المباشر في السياسة العراقية في ظل أوامر قائد فيلق القدس الإيراني، اللواء قاسم سليماني، إذ يجتمع سليماني مع وزارة الدفاع العراقية في سبيل تقسيم الوحدات العسكرية لمواجهة داعش، ثم يجتمع مع الأوقاف الدينية الشيعية وحتى السنية بخصوص تفعيل دور الخطابات الدينية، ثم ها هو يجتمع الآن مع الأحزاب لبحث تشكيل الحكومة العراقية لعام 2018، وتاريخ 2014 هو الموعد الحديث للتدخل الإيراني علماً أنها تتدخل في شؤون الدولة منذ 16 عاماً، ويتم تبرير انتهاكات الفصائل المسلحة التابعة لإيران، والغرابة أن كل مَن ينتقد التدخل الإيراني يعتبر إما بعثياً أو داعشياً بدلاً من وصفه بأنه عراقي.
بهذا الصدد يمكننا القول بأن حصة دولة العراق هي من حقيبة إيران في المنطقة، وذلك انسجاماً مع اتفاقيات استراتيجية مع الولايات المتحدة، ولا يمكننا إنكار ذلك، ولكن يمكننا نسيانه أو إقناع أنفسنا بأننا لا نرى التحركات الإيرانية العسكرية في العراق، وهذا ما يحاول إخفاءه السياسيون العراقيون ويدعون لتفعيل دور المقاومة، أي زيادة انتشار قوات نصر الله والحوثي بالإضافة للفصائل المسلحة الإيرانية في العراق.
وهنا يشهد الواقع العسكري على اكتفاء الحكومة العراقية بتدخل الطائرات الأميركية في حرب داعش تحت غطاء التحالف الدولي، وتسليمها الأرض للقوات الإيرانية، وهذا مؤشر مهم على أسبقية إيران وإدارتها للتحالفات السياسية بشكل علني لحين أن يعتق الله رقاب العراقيين من سطوة الاحتلال وينقذهم من السياسيين الذين شربوا من دماء شعبهم لصالح عمالتهم الخارجية.
سيادة الدولة العراقية
هل من الممكن تصديق أن العراق ما زال يتمتع بالسيادة الدولية؟
من يقول ذلك سيكذب أو يتكبر على الحقائق، ولسنا بصدد السخرية بل التفكير بواقعية حول انتهاك سيادة الدولة منذ عام 2003 أي منذ الاحتلال الأميركي للعراق وحتى هذه اللحظة، لذلك لا داعي أن ينتفض السياسيون العراقيون ويشغلوا الشارع العراقي بهذه الزيارة، وهم بالأساس لا يخطون خطوة واحدة دون العودة إلى أميركا، أو بالأحرى يمضي البلد على خطى مشروع إيران في التغلغل في المنطقة، وبالنهاية يتم تقاسم الكعكة بين أميركا وإيران وقطعة صغيرة لتركيا إذا ما ضغطت بأصوات السياسيين السنة.
تخوض الحكومة العراقية في تخبطات كبيرة بين ضغوطات أميركا وتدخلات إيران المباشرة، والشعب ينتفض في البصرة بعد تشويه وتخريب بغداد ثم تدمير ونسف الموصل، وبهذه الحالة ضرب المدن التاريخية والسياسية والثقافية للعراق، وهذا ما كان ممنهجاً ومدروساً بطريقة احترافية، لذلك لا تتهمونا بتسليمنا لنظرية المؤامرة، فهي موجودة فعلاً لكننا نحن المؤامرة والمتآمرون على أنفسنا بتخاذلنا وتكميم أفواهنا كلما حدث اختراق للمنظومة السياسية في العراق، وتحول هذا البلد إلى ساحة لتصفية الصراعات الأميركية الإيرانية على حساب أرواح العراقيين الذي يدفعون ضريبة باهظة، ويتأملون الإصلاح في كل 4 سنوات انتخابية، لكن المؤشرات تؤكد تراجع المستوى السياسي وانهيار ثقة الشعب بالأحزاب والتحالفات السياسية.
موقف شعبي موحَّد
أكثر كلمة انتشرت في الأوساط السياسية العراقية عقب زيارة ترامب هي "الأحمق"، وكأنهم ينتصرون لأنفسهم، ويحفظون ماء وجوههم السوداء، وفي هذه الأجواء يمكنني القول بأن الواقع السياسي في العراق لا يمكن توصيفه سوى بالبلاهة والسخافة التي تعكس هبوطاً وسقوطاً مدوياً في المجتمع العراقي، وهذا الأسلوب السطحي لن يؤثر أو يغير أي شيء، بل يزيد من النظرة الدونية لقيمة العراق التاريخية.
زيارة ترامب السرية وغير المعلنة تمثل عدم احترام للحكومة العراقية برمتها من أبسط موظف في دائرة حكومية إلى رئيس الوزراء كونه أعلى سلطة في البلاد، وهذا ما لا يمكن قبوله ولا السكوت عنه، ولا يمكن معالجة هذا الانتهاك بتصعيد الخطابات الإعلامية، الأمر الذي يؤثر سلباً في تدشين الخلافات السياسية مع الولايات المتحدة، ومن الخطأ الاستراتيجي أيضاً الاستعانة بالمقاومة والحكومة الإيرانية في سبيل طرد القوات الأميركية من العراق وهذا سيعطي الأحقية للتلاعب بمصالح البلد، بل يمكننا أن نضغط على الرأي العام والمجتمع الدولي في سبيل عدم الاستهانة بسيادة العراق، وأن يتم اتخاذ موقف منصف غير انحيازي تجاه التدخل الأميركي والإيراني في البلاد، مع المطالبة الجدية للسياسيين العراقيين برفع سقف طموحاتهم واتخاذ مواقف مشرفة وحكيمة تزيل الغبار قليلاً عن تاريخهم المدجج بالإخفاقات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.