يوم حزين بالمغرب.. لروحيكما السلام

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/25 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/25 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش

"إلى الوديعتين من الدنمارك والنرويج ضحيتي الفعل الإجرامي المتوحش.. السلام والرحمة لكما والصبر لذويكما.."

 أكيد أن روحيكما في السماء تلحظ حجم الهدير من التضامن والتعاطف والإدانة للعمل الإجرامي المتوحش الذي أقدمت عليه كائنات إجرامية مريضة لم نظن يوماً أنها قابعة بيننا ويمكن أن تحدث مثل هذه الهمجية، فهذه الأيادي الآثمة آذت المغاربة قبل أن تؤذيكما، وهي لا تمثل تربة الشعب المغربي الكريم ولا ثقافته المتجذرة في إكرام من حل عليه ضيفاً.

إن الدموع تذرف من أجلكما وتطالب بإنزال أشد العقوبات التي تتناسب مع حجم الجريمة التي قد تكون مدفوعة بغاية الإساءة لسمعة البلد، سيما أن أول البلاغات الرسمية يشير إلى كون أحد المجرمين يحمل فكراً متطرفاً، وذلك على خلاف غالبية أهل المغرب الذين ينزعون إلى التعايش والسلم، باعتبار التعدد جزءاً أصيلاً في البنى الثقافية والاجتماعية العميقة التي تغذي الوعي المجتمعي، ما يجعل أي جريمة في حق الضيف_السائح بأي صبغة كانت تترك صدمة كبرى في الوجدان الجماعي لمختلف الشرائح، إذ الإقصاء والتطرف الذي قد يتطور إلى عنف مادي في حق الآخر يعتبر سلوكاً شاذاً لا يمثل المتعارف عليه، فكيف إذا كانت الجريمة بتلك البشاعة، والتي جعلت أحد الأصدقاء يتساءل في معرض الاستنكار على مواقع التواصل الاجتماعي، مستوحياً نزعة "حنة أرندت" الفلسفية  في التساؤل حول "طبيعة الشر" الذي يمكن أن يصدر عن الإنسان في ممارساته _الإجرامية_ :

من أي يستمد الإنسان كل هذا الشر؟  ونضيف سؤالاً آخر  في سياق الجريمة النكراء: هل يعد العنف في حق الآخر جزءاً من الثقافة المجتمعية بالمغرب؟ وكيف يتم الحد من تبعات الحادث داخل المغرب وخارجه؟

 

إن الشر نزعة كامنة في الإنسان كما الفضيلة والخير، ويمكن إذا غذته عوامل معينة أن يصل إلى درجة من البشاعة تفوق الإدراك، حيث يتجرد الإنسان من كل بذور الإنسانية الكامنة فيه ويتحول إلى وحش كاسر، لكن التطبيع في المجتمعات مع النزعات العدوانية تحت أي مسمى مورست، هو ما يجعل معالم السلام تهاجر هذه المجتمعات، لتبقى السيطرة للغة الغريزة والدم، وهذا مستهجن في المغرب الذي يعرف تعاقداً مجتمعياً على قاعدة السلم المجتمعي، غير مكتوب لكنه محفور في الوعي واللاوعي الجمعي، بحيث أصبح ثقافة وسلوكاً ينظم العلاقات الاجتماعية البينية وكذلك العلاقة مع كل من وطئت قدماه أرض شمال إفريقيا من الدول والشعوب الأخرى، وذلك يعد بحق، رأسمال رمزياً ذا قيمة عالية في سياقات الصراع والاحتراب، إذ أصبح التنوع الذي هو بمثابة مزيج من الثقافات واللغات والتنوع الجغرافي الذي يضفي صبغة جمالية خاصة، عنصر ثراء وفسيفساء رفيع القيمة بسبب التناغم الحاصل عن ذلك التعاقد الذي يصعب التفريط فيه أو التساهل بشأنه.

إن الجريمة التي وقعت _ولم تظهر كامل تفاصيلها بعد_ بمثابة كرة لهب تدحرجت على رداء المغرب، وإن كانت بتخطيط أو سوء حظ، فإن المكان الذي هو نواحي مراكش التي تعد قبلة للسياحة الجبلية لتضاريسها المرتفعة وطبيعتها الخلابة وحسن معاملة أهلها وانفتاحها على أكثر من ممر سياحي، قد تكون لها آثار سلبية ليس على السياحة وحسب أو صورة المغرب باعتباره من المناطق الآمنة المستقرة، وإنما على صورة الإسلام والمسلمين في المخيال الأوربي برمته، ومن ثم ينعكس ذلك على الأقليات المسلمة في أوروبا حيث تغذي هذه الأحداث العارضة_أو المخطط لها_ الصورة المغلوطة التي تنتشر كالنار في الهشيم، ولها مخلفات سياسية واجتماعية على الكثير من القضايا مما يزيد من الدعاية للإسلاموفوبيا؛ لكل ذلك ينبغي على المستوى الرسمي تصحيح الصورة وإطفاء اللهيب هناك في بلدي الضحيتين، أي في الدنمارك والنرويج تجنباً للتبعات السلبية المتعددة الأبعاد والمستويات.

وغير بعيد على هذا السياق ذات الصلة بالانعكاس السلبي على المستوى الخارجي، هناك إفرازات بالداخل مترتبة عن الحادث البشع، وهو أن هناك من يحملون عود الثقاب، وينتظرون وقوع مثل هذه الأحداث لرميه في كامل تلابيب الوطن، ليس في المغرب فقط؛ وإنما في كل حدث _في مختلف الدول العربية_ قد يكون فيه الجناة متطرفين دينياً، أو في غيره من الأحداث الإجرامية التي هي إفراز لاختلالات في طبيعة السياسات المتبعة من الأنظمة والحكومات.إن الموقف الرافض للدين ومجمل التعبيرات في المجتمع التي تتأسس مرجعيتها على الدين، أو الموقف السلبي من السياسات أو من بنية السلطة_الحكم، لا يبرر إشهار السوط في مثل هذه الأحداث، لأن ذلك إسهام بقصد أو غيره في تدمير الأوطان التي تتجاوز حدود الخلاف حول الفكرة الدينية أو الأنظمة والسياسات المتبعة، كما أنه يتجاوز الحدود الضيقة والحسابات الصغير التي يمكن أن يصرف الموقف منها في وقته ومكانه، غير مثل هذه الأحداث الدامية التي تكون انعكاساتها ممتدة إلى ما هو أبعد كما رأينا اثارها السلبية الممكنة على تغذية الرأي السلبي في حق المسلمين.

ومثل هذا النمط من المواقف المنتشرة بدوافع إيديولوجية تغيب عنها عدة فروقات ومستويات في الإدراك، إذ يحفظ التاريخ للكثير من رموز النضال السياسي والفكري الذين عانوا مرارة الظلم والنفي والإبعاد، أنهم لم يحرقوا حشاش الوطن بسبب الموقف من السياسات أو من بنية الحكم_السلطة برمتها، ومنهم من كانوا في مواقفهم الفكرية والإيديولوجية يستبطنون خلافات حادة حول الدين_التدين والأفكار ذات المرجعيات الدينية، لكنهم لم يقطعوا أواصر العلاقة كلية مع الدين أو ناصبوه العداء، الذي يعد في السياق المغربي جزءاً من هوية المجتمع، بل هو عنصر تأسيس للتسامح والقبول بالآخر والاختلاف تاريخياً، كما أنه حاصل واقعياً، وإنكاره أو التضخيم من التطرف هو مجافاة للواقع، رغم أن التطرف فتنة العصر في منطقتنا، توجهه صناعة ويتغذى على أسباب وعوامل منها الذاتي ومنها الموضوعي، _ويمكن الرجوع له في مقالة أخرى_، وخلفه غايات وأهداف، لكنه يظل في عمومه حالة شاذة عن التيار الأساسي الذي تتشكل منه مجتمعاتنا، ولذلك في معرض مثل هذه الحوادث نحن أحوج ما نكون إلى تجنب التعميم والحدية، لأن في ذلك تجنياً على الوطن برمته، الذي هو جملة من الرموز والمعاني والثقافات والعلاقات والذاكرة الجماعية المثقلة بالمعنى والدفء. وكل ذلك لا يمكن أن تتم المقايضة عليه.

ختاماً: إن الحادث المفجع يطرح أكثر من سؤال، يمكن اقتصادها إلى ما بعد، أو أن سياقات الفاجعة وقربها الزمني يجعل إمكان الوقوف على حيثياتها مستعصياً، مع عدم بروز كامل المعطيات، لذلك كانت الغاية الوقوف على بعض الارتدادات والهواجس حول تبعات الجرم الوحشي وآثاره، على أمل تضميد جراح عائلات الضحيتين، مع أن الحدث المفجع سيترك جراحاً غائرة في سياقنا المغربي، سنكون بحاجة للوقوف عليها ومعالجتها لما تبرز كامل الدوافع وراء الجرم، مع أنه ينبهنا حول المخاطر التي تعتمل عند فئات معينة في المجتمع، والتي تبرز إلى الوجود حينما نخطئ المسير في تفكيك أحزمة البؤس الاجتماعي التي تسهم في انتشار التطرف والإجرام، وكذلك السياسات التوعوية التي ينبغي أن تقوم على النقاش الحر والواعي في وسائط الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، وجانب آخر متعلق بالمسار السياسي برمته وإشكال الديمقراطية، حتى لا تعود الأفكار العدمية أو الفوضوية إلى الظهور، وترسيماً لمعالم التعاقد المجتمعي على قاعدة السلم التي أشرنا لها بداية، وإذا لم يتم ذلك فإننا سنكون أمام مخاطر محدقة بالبلد برمته.

من المغرب أرض السلام والمحبة.. لروحيكما السلام..عذراً على الوحشية التي لم نكن نظن أنها ستخرج من بين ظهرانينا يوماً.. رحمة الله على الضحيتين وعزاؤنا الحار لعائلتيهما.. وإلى المتابعين تأملوا حساب الضحيتين بمواقع التواصل، حيث تمثلان بحق تصالحاً خلاقاً للإنسان مع الطبيعة في جوها البهيج.. وهو ما يستحيل أن يكون عليه المجرم_الجاني الذي يغرق في الظلام.

 

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يحيى عالم
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
تحميل المزيد