اتصلت بنا مسؤولة الماجستير وأخبرتنا أنها تحضر لنا مفاجأة حول موضوع الربيع العربي، كانت وقتها الاحتجاجات في بدايتها بمصر.
على عكس زملائي الذين يسكنون بالحرم الجامعي كنت أتنقل من مدينة تبعد 360كلم، فبعد إكمال عملي اليومي والذي ينتهي غالباً على الساعة الثامنة مساءً أرجع إلى البيت لأحضر حقيبتي وأراجع التقرير الذي سأقدمه للمديرة المشرفة على بحثي، ثم أضع المنبه على الساعة الرابعة صباحاً، أستفيق وأحضر نفسي ثم أضع حقيبتي وكتبي في السيارة وأغيب في سواد الليل، عيناي مثقلتان بالنوم وجسدي منهك من التعب، أحتسي الكأس تلو الآخر من القهوة بالقرفة والإبزار الذي تصر أمي أن تحضره لي صباحاً حتى أقاوم النوم به، كنت أرى بعينيها نظرة الخوف كلما ودعتني عند الباب فأسألها مستغربة: متى ستتوقفين عن الخوف مما قد يصيبني؟ أنا أسافر أكثر من أربع مرات في الأسبوع، ومنذ حوالي السنة فالمفروض أن تتعودي؟ تجيبني: لن أتوقف عن الخوف عليك ما حييت، اليوم بعد أن رأيت الخوف في عينيها قلت لها مازحة، هل تتذكرين يوم غامرنا وذهبنا إلى المغرب لأول مرة لوحدنا، هل تتذكرين عندما لاحقنا قطاع الطرق ولم يستطيعوا الإمساك بي، ابتسمت بخجل قائلة: اسكتي لا تذكريني، سترنا الله.
بدأت خيوط النور تمتزج مع خيوط الظلام وبدأت أشعة الشمس تلوح من بعيد وكأنها خيط أحمر يحدد مكان تواصل الأرض مع السماء، كان ذلك المنظر أحب المناظر إلى قلبي في تلك الطريق الطويلة الفارغة، منظر يؤنسني لمدة نصف الساعة أو أكثر، وما كان يؤنسني أكثر هو أن الطريق التي أسلكها إلى الجامعة من جنوب فرنسا عند الحدود مع إسبانيا إلى مدينة مرسيليا هي نفس الطريق التي كان يسلكها المسلمون في العصر الأوسط بعد أن افتتح طارق بن زياد وموسى بن نصير الأندلس وبعد أن عين حاكم بـ"ناربون" الفرنسية، كنت أخال الجنود المشاة والفرسان يمشون بذلك السهل الكبير والذي كانوا يطلقون عليه "البلاط"، المشاة بقميص من القطن أبيض يصل إلى الركبتين وسروال فضفاض قصير من نفس الثوب وبنفس اللون، القميص مفتوح بعض الشيء ليكشف بعضاً من الصدر والسواعد عارية وقد ربطوا خصورهم بحزام أزرق اللون غامق، لم تكن هذه الصورة من نسج خيالي لكنها كانت نتيجة بحث في تاريخ المسلمين بالمنطقة حيث اكتشفت أنهم عمروا عسكرياً وإدارياً لأكثر من خمسين سنة وكان من أشهر من حكم بمدينة "أربونة" رجل عرفه التاريخ باسم السمح الخولاني، في كتاب لأحد المؤرخين القدامى وجدته في سجلات قديمة بمدينة صغيرة اسمها "كاركاسون" يحكي أن امرأة أمازيغية كانت تحكمها وقد ضحت بحياتها من أجل إنقاذ سكانها فوضع السكان لها تمثالاً عند باب المدينة لم يدمر إلا حديثاً، بأرشيف تلك المدينة حصل لي موقف غريب، سافرت إليه يوماً صباحاً بنية أن أقضي به يوماً كاملاً أبحث عما قد أجده من مصادر توثق لتلك الحقبة التاريخية التي حكم فيها المسلمون.
ما إن دخلت باب الأرشيف حتى أحسست أن النظرات كلها تتوجه إليّ، توجهت إلى الاستقبال ووضعت لديه بطاقة التعريف وبطاقة الجامعة وملأت استمارة بموضوع البحث، وأودعت لديه معطفي وأقلامي ولم أترك بحوزتي غير ورقة صغيرة وحاسوبي وقلم رصاص كما تنص عليه التعليمات، رافقني مضيف إلى القاعة الرئيسيّة وطلب مني الانتظار بعض الشيء حتى يرسل إليّ مرشداً، رتبت حاجاتي على الطاولة العريضة المصنوعة من خشب بني غامق وبدأت أتذكر قصة الخلاف بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حيث قرأت لمؤرخ إسباني أن موسى بن نصير كان يغار من طارق بن زياد وكان يخاف أن ينال الأخير مكانة أكبر لدى الخليفة بدمشق، وفِي يوم من سنة 714 هجرية وبعد أن طلب الخليفة من القائدين الرجوع إلى دمشق بعد سنة من وصولهما إسبانيا واتخاذهما مسلكين مختلفين، رجع موسى بن نصير وجنوده إلى نقطة اللقاء والتحق طارق بن زياد وجنوده بهم، غير أنه رجع محملاً بطاولة كبيرة تخطف الأنظار، كانت مصنوعة من العاج ومرصعة بالياقوت الأخضر، كان ينقصها رجل من بين الأربع، سأل موسى بن نصير طارق بن زياد عن قصة الطاولة فأخبره أنه وجدها عند قوم في قرية صغيرة بين الجبال أخبروه أنهم يهود وقد ورثوها أباً عن جد وأنها طاولة سيدنا سليمان ثم أخبره أنه ينوي تقديمها هدية للخليفة، رفض موسى بن نصير الفكرة وأخبره أنه هو من سيمنحها هدية للخليفة، وفعلاً ذلك ما كان فحال وصول القائدين إلى مجلس الخليفة أعلن موسى بن نصير أنه جاء بهدية لا مثيل لها فدخل الجند يحملون الطاولة وقد أعجب بها الخليفة غير أنه انتبه أنه ينقصها رجل فسأل موسى بن نصير عن مكان وجودها، وهم بالجواب غير أن طارق بن زياد سبقه بالرد قائلاً إنها بحوزته وأنه صاحب الهدية قبل أن يصر موسى بن نصير على الاستيلاء عليها ثم أمر أحد جنوده فأتاه بها ووضعها أمام الخليفة.
كان ذلك أول خلاف حصل بين القائدين والذي تسبب في هلاك موسى بن نصير وابنيه حسب ما يحكيه المؤرخ الإسباني جون كوندي، قاطع حبل أفكاري صوت غريب فاستدرت بهدوء لأرى أمامي رجلاً أغرب، رجل قصير القوام غريب اللون وجهه يشبه السمكة وكأنه يخرج من أحد الأفلام الأميركية الخيالية، حاولت أن لا يظهر ما أفكر به على ملامحي، ونظرت إليه بهدوء، سألني بصوت مبحوح غريب: هلا تفضلت معي آنستي إلى مكتب المديرة فهي تود رؤيتك؟ استغربت طلبه لكنني امتثلت له ووقفت، فسح لي الطريق مشيراً بيده أن أمر أمامه باحترام وانحناءة مبالغ فيهما مما عزز لدي فكرة الفيلم الخيالي، صعدت إلى مكتب المديرة لأكتشف امرأة مسنة بعض الشيء غريبة الخلق ذات شعر غريب اللون، تحولت بنظري بينها وبين مرشدي ولوهلة تساءلت: هل هي كاميرا خفية؟
ما لبثت أن تداركت نفسي قبل أن تصيبني هيستيريا ضحك وأنا أعلم الناس بنفسي التي لا أتحكم فيها في مواقف كهذه. طلب مني المرشد الجلوس فجلست شاكرة لتبدأ المديرة باستجوابي عن موضوع بحثي وسبب اختياري لسجلات هذه المدينة، أجبتها أن موضوع البحث يتحدث عن "وجود المسلمين بجنوب فرنسا في العصر الأوسط"، تبادلت النظرات مع المرشد وسألتني، وما الذي جعلك تعتقدين أن المسلمين تواجدوا هنا في العصر الأوسط؟ هممت بالإجابة لكنني غيرت رأيي وسألتها: ما سبب هذه الأسئلة؟ هل أنتم قلقون من شيء؟ اعتقدت أن لكل مواطن الحق في الاطلاع على السجلات التاريخية فما بالكم إذا كان هذا المواطن باحثاً؟ أصابتني بإشارة نفي بكلتا يديها كمن يريد أن ينزع التهمة عنه، لا لسنا قلقين فقط نستغرب موضوعك، كما أننا لا نعتقد أن المسلمين عاشوا هنا، التاريخ يحكي أنهم كانوا يشنون حروب عصابات أو ما يسمى بقطاع الطرق، ينهبون المال ويقتلون لكنهم لا يستقرون، كان الرجل السمكة يهز رأسه بطريقة مبالغ فيها متفقاً مع كل كلمة تنطق بها مديرته، نظرت إلى المديرة مطولاً وقلت لها: أنت المديرة وأكن لك كل الاحترام لكنني الباحثة، ولا أظنك ستعلمينني ما سأكتبه، كما أنه لا يوجد لدي وقت حتى أعطيك درساً في تخصصي. عّم الصمت المكان وكان التوتر سيده.
كنت أنظر إلى ساعتي وأنا أحسب الوقت الذي بقي لدي وبدأت علامات الغضب تعتلي ملامح وجهي بعد أن اكتشفت السبب الحقيقي من مضيعة الوقت هذه. توجهت المديرة إلي بالحديث في هدوء وكأنها تريد أن تكسب بعض الوقت: تأكدي سيدتي أنك لن تجدي هنا وثائق غير تلك التي تتحدث عن هجوم المسلمين للسلب والنهب، ثم توجهت بالحديث لصاحبنا قائلة: ساعد الآنسة وابحث لها عن الوثائق التي تتحدث عن "الرازيا"، قاطعتها: عفواً هل معنى هذا أنكم تريدون أن توجهوا البحث وتختاروا بدلي المصادر التي سأطلع عليها، وقفت بحركة غاضبة ثم أخذت نفساً عميقاً وقلت لها بتحد: سيدتي، أنا في سنتي الثانية من البحث وقد جلت بين سجلات فرنسا وإسبانيا وزرت منها الكثير، ولم يحاول أحد قط توجيهي في اختيار المصادر، ولذلك سأطلب منك وبكل أدب أن تتركيني أبحث عما أتيت من أجله، وإن حاولتم منعي من الاطلاع على أي وثيقة أطلبها فسيتحول ما دار بيننا إلى قضية رأي عام. زاغت عيناها وهي تنظر إلى تلك المرأة العربية ذات الحجاب الأسود التي تتحداها، كيف تجرؤ ابنة قطاع الطرق هذه أن تبحث في تاريخ بلدها؟ ترددت بعض الشيء قبل أن تتوجه بالحديث إلى المرشد قائلة: رافق الآنسة إلى القاعة وساعدها، بينما لسان حالها كان يقول: عرقل عملها وراقبها حتى لا تحصل على ما تريد.
نزلت القاعة وبدأت أنا والرجل السمكة نلعب لعبة القط والفأر، كان يأتيني بمراجع كثيرة موهماً إياي أنه أتاني بكنز ثمين بينما كنت أتصفح لائحة المراجع كان يجول بالقاعة مسرعاً يحمل مجلدات كبيرة كادت لمرات عديدة توقعه بالأرض، وكنت أنا أتجه في اتجاه آخر للبحث علّني أجد ضالتي، رجعت بمجلد صغير لمؤرخ فرنسي الأصل هممت بوضعه على الطاولة لأجد جداراً طويلاً من الكتب والمجلدات حجبت عني رؤية القاعة وصاحبنا واقف أمامها يتصبب عرقاً، لوهلة أشفقت عليه، لكنني سرعان ما تحولت بنظري عنه لأبدأ في تصفح الكتاب الذي وجدت فيه تفاصيل عن الجنود المسلمين ومعلومات جد مهمة.
بدأت الشمس تظهر كروية الشكل بدون أشعة وكأنها القمر، تأملتها وأنا أتذكر قوله سبحانه وتعالى" يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ" كنت أرى الآية تتجلى أمامي فكنت أرى سواد الليل يختلط بخيوط الفجر البيضاء وكأنهما يلجان بعضهما البعض. اقتربت من مدينة إيكس أون بروفانس التي يتواجد بها مختبر الأبحاث التابعة له، مدينة الأغنياء التي تبعد حوالي 30 كيلومتراً من مرسيليا، ركنت سيارتي أمام باب المركز ونزلت بسرعة حتى يتسع لي الوقت لاحتساء آخر فنجان قهوة يستطيع أن يتحمله جسدي.
يُتبع
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.