"لن- ولن- يُفلح العرب في كسب رهان التاريخ، لا بواسطة اللغة الأجنبية، ولا بوسائط لهجاتهم العامية، ولو أرادوا أن يفعلوا ذلك بالأُولى لَظلوا تابعين طول الدهر، ولَعَجزوا أن يصيروا يوماً متبوعين، ولو شاؤوا أن يفعلوا ذلك بالتالي لَتَراكم عليهم التخلُّف عقوداً، ريثما يجرّون لهجاتهم جرّاً ليصعدوا بها إلى مرتبة الأداء الذهني المصفَّى من عوالم الحسِّ والمادة". (عبد السلام المسدّي)
كلَّما تعقّبت هذا الذي يحدث بداخلي ويعتمل فيه، اكتشفتُ الكثير، مما يؤكد الأثر المشهور "وفيك انطوى العالم الأكبر".
تذكَّرت البارحة، في سياق حديث مطول مع صديقة تجربة عشتها سابقاً.
كلّما تأملت هذه الأخيرة تبيَّن لي أن الإنسان عوالم، وليس عالماً! ولعل أبا حيان التوحيدي كان مصيباً عندما وصف الإنسان بأنه مركّب على اختلاف، وممزوج من أخلاط، لهذا قال في خضمّ طرح سؤاله الخالد لصديقِه مسكويه: "الإنسان أشكل عليه الإنسان".
فلأعد إلى تجربتي:
قبل سنوات كنت أقيم بهوامش الدار البيضاء، في منزل ضخم من ثلاث طبقات، لا يشاركني سكناه أحد، لم يكن لي فيه مؤنس، غير الكثير من الكتب.
جعلت آنذاك أقرأ بشكل هستيري، وبلغ من أمري أن ملكت عليّ اللغة العربية زمامَ نفسي، فلم أكن أكتب أو أفكر أو أدردش إلا بها! وكان ذلك ينساب من نقطة عميقة في نفسي، دون أن أتكلَّفه، إذ يبدو أن صحبة الكتب هي التي أورثتني هذا الأمر.
بعد فترة من المكوث بذلك المنزل، أخذت أجد صعوبة كبيرة في التواصل مع الآخرين! وجعلت أسأل نفسي غير ما مرة: ما الذي صيَّرني إلى هذا الحال؟
بدأت العلامات الدالة على أنني أفقد القدرة على التواصل العادي السلس تتوالى، فما حدَّثت شخصاً إلا وحملق فيَّ باستغراب، أو ابتسم بسخرية!
نتيجة لكل هذا أخذ التساؤل الآتي يقرع طبولَه في ذهني: ما الذي يحدث لي؟
لِمَ أدركت أن الأمر جديّ وليس عرضياً، جلست أفكر طويلاً في علاقتي باللغة: ما مجالات استعمالي للفصحى وللدّارجة؟ وما حدود كل واحدة منهما؟ وأين أكون أنا بين لغتين؟ أأكون ذاتاً واحدةً أم ذاتين؟
بدأت خيوط الإجابات تلوح شيئاً فشيئاً، وأخذتُ أنسجها برويّة.
وجدتُ أنني أصبحت فعلاً بذاتين، وأن كل ذات تعبِّر بلغتها وأسلوبها. أو لأقل، عكسياً، أن كل مستوى من التعبير سيكشف لي عن جانب من ذاتي.
ولمَّا راقبت نفسي أكثر ألفيت أنه كلما نزعتُ إلى الجدية في الموضوع الذي أتحدث فيه، برز الجانب العقلاني -بلغته وأسلوبه ومفاهيمه- في خطابي، وكلما أردتُ الحديث في ذلك الجانب الذي لا فكاك للإنسان منه، وهو جانب اللامنطق، عبَّرت بالدَّارجة، بكل بساطة لأنها تحمل في خزائنها الكثير من التعابير والألفاظ، التي تمتح من (قاع الخابية)، بل إنها تعبِّر عن مجتمع تعيش فيه، وتحمل ما أنت موصول به رغماً عنك.
قد لا ندري أننا نفكر بالنمط الذي تفرضه علينا اللغة، وبالتالي تُسيِّجنا بمنطقها، لكن قد نطرح السؤال: هل الدارجة لغة تقابل اللغة العربية، أم أنها لهجة تحاكي واقعاً معيناً تعبر عنه، بما قد لا تعبر عنه العربية الفصحى، ولَربما السؤال الأهم هو مدى إيجابية أو سلبية الأثر الذي يُحدثه تجاذب الدَّارجة والفصحى لدينا، الهُوة بين المجتمع الحالي واللغة العربية قد تكون أحد أسباب كونها تنأى بمستعملها عن واقعه المعاش، وتجعله وكأنه متعالٍ على الناس، حيث تضيق لديه بعض مساحات التواصل، ويصبح غريباً في نظر البعض، الذين هم بدورهم يصبحون غرباء في نظره، كأن بينهم حلقة مفقودة، فلا حلقة وصل تصلهم، فأين الخلل؟ فتعدُّد اللغات واللهجات ينبغي أن يكون سبباً للغنى والتنوع، لا سبباً في حدوث انفصامات وجودية لدى الشخص.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.