ما مستقبل الأمة العربية أمام واقع التشرذم ومخطط التجزئة؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/19 الساعة 16:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/19 الساعة 16:52 بتوقيت غرينتش
مظاهرات في دولة عربية - رويترز

 

  شكَّل تلاشي وانحسار النفوذ العثماني، واكتشاف البترول بالخليج العربي أهم العوامل المستقطبة والمثيرة للاهتمام الاستعماري بالوطن العربي، عبر تاريخه الحديث والمعاصر، ومن هذا المنطلق يمكن القول: إن معاهدة سايكس بيكو عام 1916م، ليست سوى ترجمة للصراع الغربي حول مصادر الثروة العالمية الجديدة المتمثلة في البترول.

 وبناء على هذا الطرح، فتواجد تلك الثروة النفطية بوطن يتمتع بالوحدة الجغرافية والدينية والمصير المشترك كمقومات غالبة، والعرقية واللغوية والتاريخية، كمقومات وحدوية نسبية، لا شك أنه سوف يشكل تهديداً قوياً مستمراً للغرب ككيان سياسي واقتصادي صاعد في تلك الفترة، وهذا ما أدركته القوى الاستعمارية التقليدية، فجاءت بالتالي تلك المعاهدة المشؤومة كترجمة نصية وروحية لنوايا الغرب السيئة المبيتة تجاه العرب.

 فمعاهدة سايكس- بيكو شكلت منعطفاً خطيراً في مسار العلاقات العربية- الغربية، حيث أبانت وفضحت نوايا الدول الاستعمارية، بل وأبرزت للوجود مخطط تقسيم مبيت جعل من الوطن العربي هدفه الرئيس، في وقت كانت فيه تلك الدول الغربية تغدق وعودها على العرب، بمساعدتهم على إنشاء دولتهم، وهو ما يجد تفسيره في مراسلات السير مكماهون مع الشريف حسين بن علي، وهنا يطرح السؤال عن السبب الذي دفع بالبلاشفة إلى فضح تلك المعاهدة السرية؟

 إن هذا المؤشر لن يتضح جوابه إلا بعد استقلال البلدان العربية وبروز الخط القومي العربي كاتجاه فكري وسياسي جديد، اتضحت معالمه بتغلغل النظام الاشتراكي الشمولي في بعض البلدان العربية، التي نصبت نفسها رائدة للقومية العربية، بل ومساندة للحركات التحررية في الوطن العربي وإفريقيا بشكل خاص والعالم بوجه عام، وهي نفسها التي ستعيش على وقع التحولات التي أعقبت ما يسمي "بالربيع العربي" عربياً، و"بالفوضى الخلاقة" أميركياً، وهو ما سيتحول فيما بعد إلى خريف حارق لتلك الأنظمة وشعوبها على السواء.

 إن هذا الوضع المزري للبلدان القومية الرائدة في الوطن العربي هو الذي يفرض التساؤل عما إذا كان للغرب مخطط جديد لإعادة تفتيت بلدان العرب، أم أن ما يشهده الوطن العربي في الوقت الراهن، لا يعدو أن يكون مخاضاً عسيراً لوحدة ظلت تراود الشعوب اليائسة من أنظمة شمولية مستبدة، وكيف سنفسر التدخل الروسي- الإيراني والتركي- الأميركي فيما يجري بهذا الوطن العليل؟

ولعل ما يثير اهتمام المتتبع للشأن العربي، هو ما يروج من خرائط جديدة لبعض البلدان العربية توصف بالمسربة، وتنسب لأجهزة الاستخبارات المركزية الأميركية، كخريطة تجزئة ليبيا إلى ثلاث دويلات على سبيل المثال وليس للحصر، وهذا الأمر ليس بالشيء المثير للاستغراب، ولا بالشيء الجديد في السياسة الصهيونية الأميركية تجاه العرب.

 فليبيا ليست بالمستهدف الوحيد في المشروع الصهيوني الأميركي، بل مخطط التفتيت سوف يشمل كل الدول العربية بما فيها السعودية واليمن والعراق وسوريا والجزائر والمغرب، وأيضاً جمهورية مصر العربية باعتبارها المستهدف الرئيس، خاصة أن بعض الدراسات ما فتئت تذكر بالمخطط الإسرائيلي لتوطين فلسطينيي الشتات بسيناء المصرية كوطن بديل، وهو المشروع القديم الجديد منذ الخمسينات، الذي قدمه مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الجنرال احتياط جيؤوا أيلند عام 2004، وتم نشره في كتاب بمعهد بيكر- السادات في واشنطن عام 2010.

وللتذكير فمضمون مشروع التوطين السالف ذكره عبارة عن اقتراح تتنازل مصر بموجبه عن 750 كيلومتراً مربعاً من سيناء لتوطين الفلسطينيين، مقابل منح مصر 600 كيلومتر مربع في صحراء النقب الإسرائيلية.

 وللإشارة فهذا المشروع سبقته مشاريع أخرى: كمشروع سيناء ما بين 1951م و1953م، ثم مشروع حاييم ياحيل عام 1956م بعد احتلال قطاع غزة، فمشروع ييجال ألون الذي جاء ما بعد عام 1967م، إلا أنها جميعاً لم تلق القبول من قبل الحكومات المصرية المتعاقبة، وبالتالي فلن نستغرب الخطة الجديدة التي جاء بها المخطط المعروف باسم المستشرق اليهودي الأميركي برنارد لويس لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات، وهو ما يلزمنا أن نذكر بأن تقسيم مصر أخطر بكثير من تقسيم أي بلد عربي آخر، وذلك لسبب بسيط يكمن في كون بلاد الكنانة هي القلب النابض لأمتنا العربية، فبتقسيمها ينتهي حلمنا العربي، بعد أن تمكنت الأقدام السوداء من وطء أرض الفيحاء ومدينة المنصور، رمزا الشموخ العربي.

ومن هذا المنطلق يمكن القول إن تفتيت مصر لا يمكن أن يتم بمعزل عن تجزئة بقية البلدان العربية، وإنما التقسيم سيشمل كل الوطن العربي دون استثناء، وبالتالي فإن ما يجري تنفيذه حالياً في سوريا والعراق واليمن وليبيا، هو الذي سوف يشمل لاحقاً بقية البلدان العربية، وبشكل خاص الدول الخليجية، ولكن من بعد إنجازها للمهمة الموكولة إليها في حرب الوكالة لتفتيت أخواتها، ليسري عليها فيما بعد نص الحكم المنفذ على الثور الأبيض.

إن كل ما سبق ذكره يعطي انطباعاً واضحاً أن الوضع العربي أصبح أكثر تعقيداً حتى قبل معاهدة سايكس بيكو، خاصة أن حربي الخليج الأولى والثانية، ثم احتلال العراق، فرضتا متغيرات جديدة على الساحة العربية، كانت نتائجها كارثة مهولة على جميع المستويات، فقد بلغ الاحتقان بين العرب مستويات لم تعهدها أوطانهم وشعوبهم، حتى في عز خلافاتهم المذهبية والسياسية على خلافة الرسول الأكرم عليه السلام.

وقد زاد من حدة ذلك الاحتقان بروز فاعلين جدد بخلفية دينية تاريخية مبنية على رؤية استشرافية توسعية، تريد إعادة بناء دورها التاريخي على حساب الشعب العربي، وهو ما تمثله كل من دولتي إيران الشيعية وتركيا السنية، كمؤثرتين على الساحة العربية سياسياً ودينياً، واللتين استغلتا عاملي الدين والتاريخ لتقوية تأثيرهما ونفوذهما بالمنطقة العربية، لتبررا بذلك ممارساتهما السياسية تجاه العرب، وهو ما يعكسه موقع الوطن العربي في السياسة الخارجية لكلتا الدولتين، بحيث نجحتا في خلق كيانات تابعة لهما في جل الدول العربية، فكانت محصلة ذلك خلق تجاذب وتنافر بين طوائفها السياسية والدينية، حتى بين أبناء الشعب الواحد كما هو حال العراق واليمن وغيرهما، مما أدى إلى بروز صراعات ذات ولاءات سياسية خارجية قائمة على الطائفية المذهبية.

فالنفوذ الإيراني أصبح يشمل خمس دول عربية، بل أصبح يهدد دولاً بعيدة عن المجال الحيوي لدولة المرشد الخميني، مما يفسر المشاركة المغربية والمصرية في الحلف العربي الذي أعلنته السعودية في حربها على ميليشيات عبدالمالك الحوثي باليمن، دون أن نغفل المصالح المشتركة التي تجمع بين الدول الثلاث مصر والسعودية والمغرب، وموازاة مع هذا الوضع تسعى تركيا إلى إحياء أمجاد العثمانيين، بطرق شتى، وذلك بدعم الحركات والأحزاب السنية في الوطن العربي كالأردن ومصر وتونس وغيرها، وقد تجلى هذا بوضوح في حالة مصر إبان عهد حكم الإخوان، وهو ما يعكس الصراع السياسي الحالي بين مصر وتركيا.

وإذا كانت الحرب في اليمن محدودة النتائج في الوقت الراهن لأسباب أملتها ظروف انشغال إيران بتثبيت نفوذها في سوريا من جهة، ومن ناحية أخرى بصراعها مع القوى الغربية لفك العزلة الدولية عنها، فالوضع في سوريا والعراق ستكون له نتائجه السلبية، إن لم نقل الشاذة، سواء على الخليج العربي بشكل خاص، أو على الوطن العربي بوجه عام، مما يعني أن ما آلت إليه أوضاع سوريا والعراق لا يعدو أن يكون بداية نهاية لبعض الأنظمة العربية والخليجية، خاصة إذا ما استحضرنا مخطط التقسيم والتفتيت الأميركي الصهيوني، وقد يتطور الأمر لما هو أسوأ من ذلك إذا ما احتدم الصراع وتعقدت المصالح بتدخل القوى الاستعمارية التقليدية في مستنقع سوريا- العراق إلى جانب أميركا، مما سيحول المنطقة بشكل خاص، والخليج عموماً إلى بركان عالمي ملتهب تصلى ناره كل أصقاع الكون.

وختاما ومن كل ما سبق يمكن القول، إن حالة التشرذم التي يعيشها الوطن العربي، لَيذكيها غياب الرؤية المستقبلية الوحدوية لدى ساسته، ذوي الأيديولوجيات الفكرية والسياسية المختلفة المنطلقات والمتناقضة الأهداف، مما أدى إلى إذكاء الخلافات والنزاعات البينية الموروثة عن المستعمر الغربي، الذي عمل على تنميتها وإذكائها حتى بعد فترة ما يسمى بالاستقلال.

 وإذا كانت بعض الدول العربية قد استفادت بعض الشيء من الصراع القائم بين القوى العظمى إبان الحرب الباردة زمن الثنائية القطبية، فإن تلك المعادلة سرعان ما تغيرت نتائجها لصالحه الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الرسمي للعدو العربي المشترك إسرائيل، وبالتالي فلن تكون المخططات الأميركية الصهيونية العاملة على إزالة الدول العربية القومية، المحسوبة على المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي، بالشيء الغريب، خاصة أنها تمثل التهديد الرسمي والمستقبلي لأمن إسرائيل، وهذا هو السيناريو الذي تجري أحداثه حالياً في الشرق العربي.

 ولعل هذا الوضع المزري والمخزي في آن واحد، هو الدافع بالمتتبع العربي إلى التساؤل عن النتائج والآثار المستقبلية لهذا التشرذم على الأمة والوطن العربييْن، في ظل تدخل أجنبي سافر وبمساهمة عربية متميزة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
الحسان القاضي
رئيس مكتب المنتدى المغربي لحقوق الإنسان
تحميل المزيد