إنه الاكتئاب اللعين
شيء ما يقبع بداخلك، يجثم على روحك، لا تدري كيف ولا متى تسلل الظلام إلى قلبك منذ أيام أو شهور أو سنين، ولكن الأكيد أنه أصبح سميكاً، لا شيء الآن يقوى على اختراقه، لا شيء من متع الحياة وملذاتها يصل لقلبك فيطربه، لا تستطيع أن تبوح لأحد، فأنت لا تفهم ماذا حل بك بالتحديد، وإذا استجمعت قواك وأخبرت أحدهم لربما سمعت الرد الأشهر: "أنت بعيد عن الله"، متبوعاً بسيل من نصائح الفيسبوك ووصفاته السريعة، اقرأ سورة كذا أو كذا ثلاثاً أو أربعاً، وقل هذا الدعاء أو ذاك قبيل النوم وبعد الأكل، وغيرها من الوصفات التي تنضم لقائمة طويلة من الوصفات الفيسبوكية للجمال وللطبخ والتربية وغيرها.
وبالرغم من النية الصادقة والرغبة الصافية في المساعدة فإن هذا الناصح لا واعياً أضاف إلى روحك المثقلة أساساً عبء تحد جديد، وواجب يومي يضاف لمهامك اليومية، إذا حدث وفشلت فيه يزداد الشعور بالذنب واليأس والنبذ، وربما يؤدي -في أسوأ الحالات- للانتحار.
إنها طريقة مضمونة، كيف فشلت؟
الحقيقة أن إضافة مهام إضافية للشخص المكتئب قد يأتي بنتائج عكسية غير متوقعة، إذ إن الاكتئاب وفقاً لمنظمة الصحة العالمية يقترن بالعجز عن أداء الأنشطة اليومية، وفقدان الاهتمام بالأنشطة التي غالباً ما يتمتع الشخص بها. بمعنى آخر لا بد أن يزول ولو جزء من غمامة روحه؛ كي تنفذ إلى قلبه حلاوة القرب من الله، والاستعجال في ذلك الأمر لن يُجدي نفعاً.
التدين وعلاج الاكتئاب
لا يمكن إغفال الجانب الروحي في علاج الاكتئاب؛ إذ إن نظرية فرويد بأن الاضطرابات النفسية ليست إلا نتيجة عوامل بيولوجية بحتة، عليها العديد من المآخذ والعلاجات الحديثة، تستخدم تقنيات عديدة، غير غافلة عن العلاج الروحي بطرق مثل التأمل مثلاً، وهو ما استطاع علماء مسلمون استبداله ببدائل من وحي الدين الإسلامي، وهو ما ذكره بالتفصيل البروفيسير مالك البدري، في كتابه مأزق علماء النفس المسلمين، وبالفعل هناك دراسة أميركية أثبتت أن الشخص الذي يعتقد بأهمية الدين ويؤمن به يمتلك قشرة مخية أكثر سمكاً من الذي لا يرى في التدين أهمية. أي أن التدين يقوي الدفاع ضد الاكتئاب بطريقة فيزيائية، ويجعل الفرد أقل عرضة للاضطرابات النفسية.
الدول العربية تتذيل قائمة الدول الأكثر سعادة، فكيف إذن؟
لسنا بصدد الحديث عن الظروف الاقتصادية والسياسية التي تساهم في ذلك، ولكن دعونا نتفق أن هناك قصوراً واضحاً في الخطاب الديني الموجه للمسلمين الآن، فلقد أصبح ينحصر بين برامج الفتوى أو التنمية البشرية الدينية على أنغام الموسيقى أو شيوخ ما بين معتقلين سياسيين أو فاقدين لرصيدهم عند العامة لسبب أو لآخر، فاصبح كل فرد شيخه هواه، وفي أحسن الأحوال كتابه. وانتشرت منشورات الفيسبوك الدينية، محاولة أن تشغل الفراغ الديني والروحي، لكن للأسف كل ذلك يروج لاختزال الصورة العامة للدين، كأنه وسيلة لجلب الرزق والحبيب. فعبارات مثل لا تجعلها تقف عندك أو انشرها عشر مرات لتسمع الخبر السعيد تلخص الخلفية الدينية الحالية.
التدين الحقيقي الذي يشفي من أنين الاكتئاب المكتوم هو إيمان يسمو بالنفس البشرية، يصل للقلب والعقل، يجبر ما بهما من آلام وحيرة، ليس مسكناً سريعاً يؤخذ بمثل هذه الوصفات، وهو ما تؤكده الدراسة السابقة، فقد أشارت أنه لا علاقة بعدد مرات الذهاب إلى مكان العبادة وبين زيادة سمك القشرة المخية. ويحضرنا كلام أحد السلف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره.
الخلاصة أن آلية حدوث الاكتئاب وعلاجه معقدة، وتمثل تحدياً للأخصائيين النفسيين، فكيف بمن دونهم في العلم وحده، الأخصائي يستطيع أن يحدد الترتيب المناسب والتداخل الصحيح للعلاج الدوائي والروحي. فتذكر في كل مرة تنصح بها عزيزاً أصابه المرض أن مساعدتك الأفضل هي الدعم، ثم التوجيه لطبيب نفسي.
"الاكتئاب قاتل صامت فضلاً عن أنه يؤدي للانتحار فهو ثاني سبب رئيسي للوفاة بين من تتراوح أعمارهم بين 15 و29 "هاف بوست".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.