حين تقرأ كتاب "الموت يصنع كعكة عيد الميلاد" 2017 للشاعر حمد عبود، تشعر أنه تغير كثيراً عن الشاعر الذي كتب ديوانه الأول "مطر الغيمة الأولى" 2012، كذلك شعره لم يعد ذات الشعر، ولا تدري أيهما غيّر الآخر؛ الشعر من غيّر في الشاعر أم الشاعر غيّر في شعره؟! لكن بالتأكيد هناك شيء كبير تغير، وربما أن أول ما سيخطر على بال القارئ أن التغيير متوقع في التجربة الشعرية والشعورية لأي كاتب، أو كما يقول الشاعر البولندي تشيسواف ميووﺵ في واحدة من قصائده: "فائدةُ الشعر أنْ يُذَكّرَنَا كيف من الصعبِ عليكَ أنْ تكونَ نفس الشخص".
فمن كتب في ديوانه الأول الذي صدر عن دار "أرواد" في سوريا عام 2012، في قصيدة "إخراجات إلهية" يقول:
"أسير على هامش فكرتي
أصَيِّر سيرتي سجادتك الملونة
لأكون معبراً لك على الألوان
أفرك النرد وأرمي بنفسي
لأسقط على وجه حظي
مكملاً الحكاية".
بالتأكيد يختلف تماماً عمن كتب في كتابه الثاني في نص "مقطع من شهادة متطرفة جدّاً":
"القطة حكت لجثة عن القبلة، وعن الرائحة التي انبعثت من شال الفتاة.
حكت الجثة لصديقاتها فأصبحن كلهن شاهدات على قبلة الممر،
المدينة التي انشغلت بالسياسة صباحاً أمست تُكثر الحديث عن ممرنا
الشوارع الجانبية لم تعد مقفرة كعادتها، هناك قطط تشهد على شيء بين حين وآخر".
وهذه المقارنات ليست بهدف إطلاق الأحكام على تجربة الشاعر حمد عبود بمقدار كونها محاولة لإلقاء الضوء على تجربة شعرية فيها قفزة كبيرة قد تكون للأمام أو للخلف، لكنها قفزة تستحق المتابعة، خاصة أن سماته في الكتابة باقية على حالها، بمعنى أن كتابه "الموت يصنع كعكة عيد الميلاد" رغم حزنه إلا أنه لا يزال يحتفظ برومانسية الانطباعات، ومتتاليات السرد التي تغلب على ديوانه الأول.
ففي حين ترك لنا حرية التأمل والتأويل وتنوع المواضيع وانتماء القصيدة إلى ما يشبه اللامكان واللازمان في ديوان "مطر الغيمة الأولى"، نجده قد تورط بالواقع إلى آخر رمق، حتى إنه شد الكلمة إلى الواقعية التقريرية، وكتب عن يومياته بزمانها ومكانها وقام بأسطرة الأليف والبسيط من مكونات حياته، لتترك لديك وقع قصيدة لا تنسى في كتابه الثاني "الموت يصنع كعكة عيد الميلاد" ولكنها ليست قصيدة.
وكأن تجارب الحرب تترك الشعراء بلا حول أمام التحليق في النثر بنوع من الحقد على الشعر، فقد سرد الحكايات العادية في كامل أبهة ما يتطلبه الراوي الشجاع وكأن الغربة تجعل خيالك يتضاءل، وربما هذا يكون مطلوباً أن يصبح الشعر مخلوقاً بشرياً متداولاً، فطالما كتبنا الشعر في الوطن في تأليه عال وتقديس ولم ينزل يوماً إلى حياتنا.
كما أن تجربة حمد عبود من التجارب التي تشي بكون الشعر مسألة شخصية تماماً، ومن الصعب فصلها عن كاتبها أو نميّته_نسبة لنظرية موت المؤلف_ كي نقرأ سياق الفكرة واللغة والأسلوب، فهو لم يسمح لنا بذلك فقد أغرقنا بواقعية تجربته في كتابه الثاني الصادر عن دار النشر السويسرية "Pudelundpinscher" عام 2017.
وكأن تجربة اللجوء الصعبة من سوريا إلى أوروبا التي واجهها حتمت عليه سردية حرة دون حبكة وبالتأكيد بلا نظم شعري، في لغة تقريرية ابتعد خلالها عن الشعر الحر، لكن محافظاً على الرمزية، أي المعادل الموضوعي في التعبير عن الاغتراب والهوية دون أن يغرق بفلسفة الأفكار أو تكثيفها أو يجد متسعاً لترف هندسة تكنيك القصيدة كما في الديوان الأول، فتشعر أنه محاصر في نثر حكايته التي من الصعب أن يقلدها أحد آخر.
وقد كسرت تجربة المنفى بصعوبتها الشعر لدى حمد عبود أو على الأقل ذاك الذي خَبِره في وعي الكتابة خلال فترة دراسته وكتاباته بسوريا، فالشاعر الشاب مواليد 1986 أراد كسر الشكل الذي يضيق عليه، وأن يعبر عما يحدث معه فيما هو أكثر رحابة، ليس نثراً تماماً وليس شعراً تماماً.. فقد آمن أن النص يتسع لكل ذلك، وربما قد يكون هناك ممن قرأوا كتابيّ عبود يرى أن العكس ما حدث؛ وأن الشكل الشعري في ديوانه الأول كان واسعاً، وهو من أضاقه على تجربته.
ويعتبر نص "أريد أن أقود الدبابة" والذي ظهر على الشبكة العنكبوتية منتصف 2015، أي في الفترة بين الكتابين هو المنطقة الانتقالية، كما أنه أول نص في كتاب "الموت يصنع كعكة عيد الميلاد"، ويجاور فيها النثر الشعر ممهداً للتخلي عن الأخير.
وقد نرى في هذا النص تحولات حمد واستسلامه للقصّ في بقية نصوص كتابه "الموت يصنع عيد الميلاد". فتارة يغيّر نصه مسار الشعر، وتارات كُثر هو من يغيره، لتنطبع حكايات حمد في النهاية كقصيدة برية غير مشذبة الأطراف.
وقد وصل كتابه العام الماضي إلى القائمة القصيرة للنسخة التاسعة من الجائزة العالمية للأدب المُترجَم التي يتم منحها سنوياً لأفضل نصٍّ مُترجم إلى اللغة الألمانية من 29 لغة حول العالم.
حيادية مُتقصدة
من كتاب "الموت يصنع كعكة عيد الميلاد" في النص الذي يلي قصيدة "أريد أن أقود دبابة" بعنوان "دومينو وكاندي كراش" يُجاهد فيه الشاعر حمد عبود كي يكتب قصيدة، لكن ما يخرج معه هي مَشاهد تحتمل كثيراً من الدراما، والتي تحتمل بدورها الكثير من مواقف الشاعر، ومع ذلك لا يمكن القول إن هناك أيديولوجيا، بل يوجد سياسة يحولها الشاعر لمنصة يتحكم عبرها بالأحداث وتهريج القتلة.
يقول في ذات النص "أما القائد الذي كان يحتفظ بحق الرد فقد كان يفكر في ميعاد رده الذي سيوقع الجميع على أقفيتهم من الضحك عشوائياً وبانتظام. وإلا لما احتفظ به لهذه الفترة الطويلة، لا بد أنه أحس بأنه مهم لشيء ما، يوماً ما".
ومن نص "بورتريه لديكتاتورنا الجميل" يقول: "يطلقون عليك هنا كل الألفاظ الغريبة، واستغرب حقاً، لا يقدرون ما تفعله، ولا يعرفون بأنك استجبت لشكاوى الناس عن ضيق البلد وسوء التخطيط فيه وقلت لهم: اذهبوا واقضوا إجازتكم في الخارج بينما أنفض البلد وأعيد بناءه من جديد".
كما يفعل أيضاً في نص "بدون ملابس داخلية تحاول الطيران" :
"اضحك..تذكر بأن الهواتف التي نعت إليك أسوأ الأخبار، كان فيها ضحك هستيري وإن كان من العجز. تذكر بأن القاتل المتسلسل صاحب الرقم الأكبر على مر التاريخ، تاريخنا على الأقل، يجلس على سفح الجبل ويأخذ سلفي لنفسه كلما سقط برميل وطار شهيد".
ويبدو أن مساحات السرد الواسعة تجعل الشاعر حمد عبود مجبراً أيضاً على التورط في إظهار موقفه مما يحدث في بلده، وتشعر به واعياً لذلك عبر محاولاته أن يبقى متوازناً إلى حد ما، ويساعده على ذلك أنه يجعل للدبابة والقنابل والطائرات حكايات وقصص وأحياناً عقلاً يبث أفكاراً، كما تفصح عن ذلك هذه الاقتباسات:
"لو أعرف كيف أقود دبابة
لكنت استعرت واحدة من الأعداء، أو الأصدقاء
الكل لديه دبابة سواي
ولأخذتك على متنها
في فسحة تليق بهذه الحرب"
ويقول في نص "دومينو وكاندي كراش "الطائرة التي كانت تحوم حول منطقة الفيض في حلب، كانت تبحث عن المكان الأمثل لرمي البرميل المتفجر، يحك الطيار ذقنه ويتساءل: أين هو البيت الذي سيفكك مفاصل الحي بأكمله؟".
ويبقى حمد بعيداً عن الانحياز مهما شدته تراجيديا نصوصه، وهنا يبزغ سؤال كبير هل مطلوب من الشاعر ألا ينحاز حين يحين الوقت لذلك في قصائده؟ يقول في نص "مارفل، رأساً على عقب": "جزمته بعنقها الطويل لم تمتط الريح منذ ردح من الزمن، أهل الحارة همسوا فيما بينهم بأن رأسه الأحمر وعيونه المشوهة صنيعة النظام، (اعتقلوه وكسروا شوكته) أهل الحارة أيضاً همسوا فيما بينهم بأن الخطوط المتروكة على ظهره وصدره ليست إلا ضريبة دفعها لداعش عندما مر مشياً على الأقدام بالقرب منهم. (عاقبوه وقوّموا شوكته)".
وفي نص "بدون ملابس داخلية تحاول الطيران" يقول: "اسأل نفسك، هل أنت متأكد أن اختيار الجبل كان لأسباب استراتيجية بغرض الحماية، أنا أشك! السلفي، الأنا، الغرور، جنون البقر والعظمة، التقاط إشارة خليوية أفضل، الانفراد بالذات، ملاقاة الله، ومراقبة طرفي معركة محتدمة يقتتلان تارة بالأظافر، وتارة بالكيماوي، والضحك على رجال تموت ورجال تصطنع الموت من بعيد جداً، وبعدسة مقربة عملاقة.. هذه هي الأسباب الحقيقية وراء اختيار الجبال".
أما في نص "ماذا حل بالطيور اللاجئة" يقول "كان من الأفضل أن يكتبوا على الورقة الخضراء بأنني يتيم فقدت بلدي في حادثة قيدت ضد مجهول حتى هذه اللحظة، ورميت بنفسي في حضن أول وطن حنون وجدته في طريقي".
شاعر ونَص قَلِقان
تمر حكايات الحرب والملابس ويوميات المُعاش بوقع خاطف لاذع ومكرر، يقول في نص "بوتريه لديكتاتورنا الجميل": "ندمت وأنا ألوك هذه الفكرة بين أسنان دماغي، وسأشعر بندم أكبر عندما أكتبها وأشاهدها تنمو على شاشة البلاك بيري الصغيرة، ولكن الندم هو النتيجة الوحيدة التي تجعل هذه الحياة حقيقية".
في هذا الاقتباس تجتمع عدة أشياء معاً تصلح نموذجاً لبقية النصوص، وكأن الشاعر غير واثق من شيء ما أو أصبح يخاف الشعر، فيتسلح بأشياء أخرى وتفاصيل جانبية إلا أنها قوية التأثير؛ كالتواصل التكنولوجي فتأخذ طابعاً عصرياً، وهناك الصورة المجازية المكثفة التقليدية "أسنان دماغي" فيتصل مع القديم من شكل الشعر، وأخيراً هناك الحكمة التي من المفترض أن نتوقف عندها "الندم هو النتيجة الوحيدة التي تجعل هذه الحياة حقيقية"، ويستمر في تكرار هذه العناصر من مظاهر التكنولوجيا والصور المجازية والحكم المطلقة عدة مرات في نصوص الكتاب.
وبالتأكيد هناك شغف الكاتب باستخدام صيغة المتكلم في السرد الـ"أنا"، الذي يأتي بكثير من البوح وبشحيح من العوالم الخارجية، لكن هكذا كان أيضاً في ديوانه الأول يحاصرنا بأناه ويوجهها معلناً رفضه السرد الموضوعي أي الراوي أو مستوى السرد بصيغة الغائب غير المتورط، لكن العارف والعليم بكل ما يحدث.
يقول في نص "الموت ومقاماته": "فتاة مسكينة ثانية _ليست صديقتي_ نجت لسبب لا أحد يعرف ماهيته من قذائف الحرب، لتموت بعد أن انزلقت فوق قشرة موز فسقطت قتيلة. رحمها الله، لقد استحى أهلها وخجلوا أن يقولوا للجيران كيف ماتت ابنتهم، اكتفوا بدفنها وقراءة الفاتحة"، ثم يقول في النص ذاته: "أعرف أباً كان يخاف جداً على أولاده، عندما مات أخذ العائلة كلها معه".
وقد خفف من تبعات ("أنا" البوح) في ديوانه الأول عبر سمات أسلوبية تتعلق بالرمز بشتى صوره المجازية والبلاغية والإيحائية، في حين أنه خفف منها بكتابه الثاني عبر المشاهد التراجيدية، وأعطى القارئ ما قد يثير فضوله في يوميات حرب ولجوء.
وبالتأكيد لدى الشاعر الحرية أن يقول ما شاء كيفما شاء ويطلق عليه ما يشاء، أو كما يقول صديقنا البولندي في القصيدة ذاتها "موافق أنا ما أقوله هاهنا ليس شعراً لأن القصائد تكتب نادرا وبدون رغبة".
وهذا يُحسب للشاعر عبود؛ فعلى الرغم من أرقه وقلقه حول نَظم الشعر خلال الكتابة ووعيه بما يكتب وبما يكسره ويتجه إليه، إلا أنه نادراً ما يتصنع تجربة ويفلسفها ويكثفها ويداريها بأن يجعلها على سبيل المثال مقالاً ذاتياً أو يستدعي ما لا ينتمي إليه، أو يُكثر من الرموز والمجاز فيكتب نصاً يتفاخر بحداثته، بل غالباً ما يكون نفسه بكل وعيه بنصه وتردده.
إن قلق عبود كانسان وشاعر تشعر به متشظيًا بين نصوصه التي لا تشبه أحداً سواه، لكن حتى هذا اليقين الوحيد يعود ويسخر منه، يقول في نص: "الموت ومقاماته": "بالتأكيد، فإن من مات ليس كمن رأى الموت ألف مرة دون أن يناله، واكتفى بالكتابة عنه كأن يقول: إن الموت ليس متساوياً والموتى ليسوا سواسية".
وبذلك يفتح الشاعر باب القلق على التجريب، فتشعر أنه يجرب في هذه النصوص مستويات وأساليب إبداعية متنوعة محاولاً أن يكون مصدراً للإدهاش والتأثير وانسيابية السرد كتجسيد وتعويض عن جماليات التشكيل الشعري، فتشعر أنك تقرأ ما يشبه نشرة أخبار محمد الماغوط في "سأخون وطني"، ومتتاليات نيرودا في "مائة قصيدة حب"، كما تراه الطيار والجندي والدكتاتور كأنك في حفل "هالوين" بأقنعة محترفة، لتشعر مع ختام النصوص كأنك فيما يشبه "فالس الوداع" الشعري الأخير لحمد، ولا تفطن أبداً في أي جرح وأي حرب ضاع منه النَظم، لكنه اكتسب الحزن الذي يليق بشاعر، فلا أذكر أني رأيت شاعراً سعيداً وبقي يكتب الشعر.
ثيمات
السرد الحر في النصوص غالباً لا يرتبط بحبكة ما أو حدث مبني على آخر، لكنه أحياناً يتحول إلى ما يشبه القص، فيقول في نص "ماذا حل بالطيور اللاجئة": "في طريقنا لإحدى النقاط الساخنة الحدودية، بين النمسا وهنغاريا، كنت أحاول أن أشرح لصديقتي الصحافية، القادمة من سويسرا والتي أرادت تصوير أحوال اللاجئين هناك، بأن الطيور تهاجر من بلد إلى آخر هرباً من الشتاء دون فيزا، فلماذا نحتاجها؟ نحن الذين هربنا من ربيع تسلل إليه كل برد شتاءات العالم".
كما تملأ هذا السرد الأفكار الكثيفة عن الموت والغربة وقيمة الإنسان وضياعه، يقول حمد في نص "أنا مقبرة جماعية قديمة": "أنا مقبرة جماعية، أحب تلاوة السديس، أرى الحياة من خلال سواد عباءات النساء، وبياض جلابيب الرجال، وأحب أيضاً رش الماء البارد على وجهي أيام الجمعة. لكني تمنيت في ليال كثيرة لو كنت وحيدة مع القمر بدون نزلاء شديدي الحرص على تكرار ذات السؤال قبل النوم لماذا شاركني الآخرون البرميل المتفجر؟ كنت أود لو أنه جاء وعليه اسمي فقط كنوع من مكافأة انتهاء الخدمة"، ويشي هذا الاقتباس بسؤال يؤرق الشاعر حول سبب نجاته من الموت في مدينة أخرى، وبلد آخر باسم آخر وشخصية أخرى.
وحديث الشاعر عن الموت ككشف جرحه للهواء، فهو يريد أن يشفى منه، يقول في نص "الموت ومقاماته": "في الحرب غير العادية لا يفضل ولا يستحسن أن تموت كيفما تشاء، عليك أن تعلم بأن هناك قواعد وخيارات متاحة ومحددة. أن تموت برصاص القناص فهو خير على خير، وإن كان ممكنا فمت بقذيفة في ساعة محددة من اختيارك أنت، أو في ساعة مفاجئة تماماً كأي عيد ميلاد ادعيت أنك نسيته، فقط لترسم على وجهك علامات المفاجأة والانبهار بعيد ميلادك الذي رتبه الأصدقاء".
يؤلم الشاعر النجاة من الموت وترك الآخرين خلفه، بمقدار ما تؤلمه فكرة الوطن، لذلك نجده كل مرة سرعان ما يعود إلى حكايات اللجوء، فيقول في نص "جوع قديم وأشياء تشبه الديمقراطية": "لا يقلقك ترك الباب مفتوحا هنا والخروج حافياً كأي قط مهجن تم تدجينه بعناية، تنام على محفظة مثخنة بذكريات الصعلكة والتشرد، التي تكفي للتفاخر بين الرفاق في اجتماع عابر، وإن كانت أغلب الاجتماعات هذه الأيام عن طريق السكايب".
وتبقى تجربة اللجوء موضوعه المفضل فنجد أنه اكتشف نفسه والوطن من جديد، كما يراوح في معظم حكاياته بين غربة وغربة، وإن بقي الخذلان حاضراً، يقول في النص ذاته ساخراً من المنفى، وبحنين غير معتاد لأشياء غير معتادة: "غريب كيف لم يتطور الفلكلور لمرحلة يدخل فيها القرن الأخضر الكبير في اللباس التقليدي لتشاهده بكل فخر على خصر كل رجل يعتد ويفتخر بمحصوله الزوري، ولكن الخيالات لا تطعم خبزاً ولا بامية هنا، فأي قرون هامدة هذه وأي قلة مفهومية".
وهذه السردية الحرة تحتمل العبارات الكبيرة التي يشعر معها الشاعر بالأمان فيقول في ذات النص: "المنفى وجود زجاج بينك وبين العالم، لا أنت تصل إليه وتمسك بخناقة ولا العالم ينتظر عطاياك".
وأحياناً يطمع الشاعر بهذه العبارات إلى درجة أنه يطلق أحكاماً سياسية وإنسانية مباشرة لا تشعر أنها متسقة مع توازنه الحريص عليه، فمثلاً في نص "الموت ينفرد بنا كما انفرد ماردونا بالمرمى سنة 1986" يقول: "نسيت أن أقول لك أيضاً إن الرجال الذين تراهنوا على إسقاط النظام ماتوا وهم يحاولون.. لا ضير. أما البلد الذي لم يبقَ به رجال، تحسس شارب أولاده فوقع في مأزق الرجولة الناقصة"، كما يصرح في نص "بدون ملابس داخلية تحاول الطيران": "حتى إن الفيفا أصبحت رويداً رويداً برعاية الله، وإلا كيف ترى انتقالها إلى قطر؟! بقيت رويداً واحدة وتنتقل إلى المدينة المنورة".
ويقول في نص "كذاب بنجمتين": "أنت الآن كذاب بنجمتين؛ لأنك محترم زيادة عن اللزوم، والثانية لأنك قلت بأن كل الفتيات هنا جميلات، مع أن الجمال هرب عندما نام الأصل مع أكثر من عرق في سرير واحد".
وهذه الفجاجة الصادمة في بعض العبارات ليست وحدها ما تشعر أنها خارج السياق بل هناك اصطناع للتجربة في قلة من نصوص كتابه التي لا تشبه يومياته وتجربته، كأنه يريد أن يعدد كل ثيمات الفقد في هذا الكتاب الذي يترأس الموت عنوانه، مثل نص "أولادي وأنا ننتظر أمهم"، وبالتأكيد حين يقترب من نهايته يضع عبارة من عباراته الواسعة المُمسرحة فيقول "أريد طفلاً واحداً لأربي به الحياة، في نفس الوقت الذي أقضي فيه حياتي وأنا أربيه"، وكأن الشاعر حمد عبود مع هذا النوع من العبارات يتجنب نزف جرحه المفتوح على الورق، يهرب منه كما يهرب من الشعر، لذلك فضل الحكايات غير المكتملة ومشاهد الغربة والمرور بالموت والعبارات المطلقة التي عادة ما ينهي بها نصوصه، أو قد يختم هذه النصوص بفتح موضوع جديد مغاير لثيمة النص.
وبذلك يعيد الشاعر حمد عبود كتابة نصه عدة مرات ويهندسه لكن ليس لأنه بقي يجاهد كي يكتب القصائد، بل لأنه عرف ما يريد الناس قراءته وسماعه، أوسع من شعر، وأضيق من رواية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.