«عام 2000 لن يكون به صومالي جائع»! فما الذي قلب حال الصومال وشرّد أهله؟

عدد القراءات
15,090
عربي بوست
تم النشر: 2018/12/15 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/24 الساعة 12:22 بتوقيت غرينتش
الصومال قديماً

"لا أحد يعود من الحرب كما كان" مقولة شهيرة ظلت راسخة في أفواه المقهورين بعد كل حرب عبثية كنا نستطيع الابتعاد عنها، وكذلك المدن لا تبتسم كعادتها ولا يلتئم جرح الأوطان بعد الحرب، إنه أسوأ ما عرفته البشرية، يدمّر الشعوب ويشوّه التاريخ والحضارة، ولا ينجز سوى دموع الأمهات وانتشار الفقر والدماء، وتغيير الملامح والهوية والوعي.

الكتابة عن الحروب تعيدني إلى ذكريات الطفولة الضائعة في مرابع عشيرتي الممتدة بامتداد السمرة والإبل، ومعها أمرّ عبر الخيال الذي يتسع كلما أتوغل في مأساتها ثورات اللاتين، وانقلابات إفريقيا، وهمجية الحضارة الغربية المدمرة، وتخمة العرب من الصراعات الصفرية، والصومال المزدحمة بالاختلافات وحروب أفقدتها نعمة الأمن ومواكبة العالم ومحاربة الفقر، الذي قال رئيسها ذات يوم وهو في قلب مقديشو: إن عام 2000م سيكون آخر عام سيوجد على وجه الأرض صومالي جائع لا يجد لقمة شريفة تسد رمقه، كانت وعوداً فارغة أطلقها آخر المستبدين الوطنيين كما أطلق مدافعه على المدن الصومالية، وطلقات المدافع أسرع من وعود السياسيين الذين أخفقوا في إيجاد الحلول الناجعة لأزمات بلادهم.

لم تتحقق تلك الأمنية العابرة لرئيس ظل رمزاً وطنياً قبل أن يجرفه الاستبداد بعيداً عن أحلام الشعب ومبادئه، بل توغلنا في عقود كريهة كان صوت الرصاص هو الفصل الحتمي لأتفه الأسباب من شجار الأطفال إلى تلاسن الأصدقاء وحكايات الجدات الطاعنات وصراع الجبابرة، وكان الفرقاء الصوماليون يبتسمون في العلن وأمام الكاميرات في العواصم العربية والإفريقية وفي مؤتمراتهم المتعددة، ويوزعون الموت في الخفاء، مما أذهل العالم وجعله حيارى حيال هذه الأزمة المتجددة.

عشنا بين الأمم مطأطئي الرؤوس، والتهمنا الجوع ونحن نعيش في بلد يعدّ من أخصب البلاد الإفريقية والعربية، وساقنا الظمأ إلى توابيت الموت ونحن على ضفاف الأنهار وبحيرات من المياه الجوفية، ولا غرو في ذلك، فالعقول القاحلة حوّلت السهول والمدن المطلّة على الأنهار إلى صحراء، بينما العقول المنتجة جعلت الصحراء مروجاً وأنهاراً!

لقد تركت الحرب جرحاً عميقاً في البيئة والحياة والسلوك، فبدأ الجميع يسأل ويبحث عن زاوية غير تقليدية لاكتشاف ذواتهم ومعرفة ماهية الحرب، مما ألهم الشعراء والأدباء والكتاب، وصنع جيلاً جدياً أبدع بعضهم في وصف الحروب بالقصائد والأشعار والمسرحيات والنكت وقليل من التدوين والكتابة، وبرزت النكسات المتتالية كتاباً ورسامين ومواهب استطاعت تعبير الحروب بكثير من الإبداع والمعاناة، وحولوا التشرذم إلى سرديات موجعة، ورسوم ملهمة، وحكايات شفهية تغوص في أعماق المأساة، وألحان تعبر عن مشاعر المقهورين ونبضات المحبين وملامح المهاجرين من ديارهم إلى المنافي البعيدة، وقصص تؤرخ للحروب وتخرج الحقيقة الكامنة وراء ركام الأوطان والقلوب الخانقة إلى صدارة الجرائد وشاشات التلفزة. والحقيقة في زمن الصراعات تختفي على وقع هدير الرصاص وتضيع الأشياء في عمق الجروح الغائرة.

وأخفق بعضهم كالفن الصوتي – الأغنية- حيث توارى في محراب الحب وألوان الصبا ومفاتن المرأة والرومانسية المفرطة، وكان في معظمه غريباً هابطاً لا يمتّ لماضي وأحاسيس وثقافة الشعب بأي صلة، ولا يحاول تخفيف الألم عن كاهل الكادحين إلا ما ندر، وبدا الفنان وكأنه يغنّي لمجتمع مثالي يعمه السلام وتحفه الطمأنينة، ومن الغريب أنهم يحييون الليالي الحمراء في المنافي، في حين كان الدم يسيل في الطرقات، وبعضهم شاركوا في فصول الحرب وأسقطوا عن عيون الشعب إلى الأبد، وقصارى القول كان الفن والأغاني "الإيروتيكية" في واد والواقع في واد آخر.

وكذلك أخفق المثقفون سياسياً ودفنوا رؤوسهم في رمال الصومال المتحرك واتصفوا بالانطوائية والشوفينية لأفكارهم، بعيداً عن المجتمع ومشاكله الحقيقية، وطفقوا يحللون الواقع ويلعنون الحاضر، وقد احتفظوا بأماكنهم البعيدة عن معترك السياسة بكل برودة.

كانوا ينشرون نظرياتهم عن الوطن وعن الحروب وعن الإسلام والثقافة والسياسة والدولة والقبيلة، دون أن يقدموا مقترحات حقيقية لانتشال الوطن، بل كانوا يتهربون من مسؤولياتهم ويتذرعون بأسباب واهية دون أدنى شعور بالذنب، وقد انتهز هذه الفرصة زعماء القبائل ومجرمي الحرب فتصدروا على المشهد السياسي والاقتصادي مما أبعد الحلول.

لقد تمرّد المثقفون عن الواقع القبلي العفن وابتعدوا عن قيادة الدولة وتأثير القبيلة -حسب أدبياتهم- ولكنهم أبدعوا في حقول التعليم وإنتاج المعرفة فأسّسوا المدارس والمعاهد والجامعات، وساهموا في نشر ثقافة التدوين والكتابة، ووثقوا المجازر والانتهاكات ضد الإنسانية واغتصاب براءة الأطفال وزجهم في الحروب الأهلية، وساهموا في إبراز الزوايا الأكثر إيلاماً من زوايا الحروب، وتصوير المشهد ومساعدة الآخرين على فهم الأحداث، كما كانت وكيف حدثت من دون تهويل أو تزييف أو تضليل أو تجزئة.

ورغم أن الكتابة لا تستطيع برومانسيتها ورفاهيتها في خيال المجتمعات ذات الثقافة الشفهية، بناء مستقبل مشرق وسلام داخلي، ما لم تتكاتف جهود القوى الفاعلة في الساحة بكل أنواعها وأيديولوجياتها، إلا أنها تظل النافذة الأهم التي نشهد من خلالها سوداوية الحروب وتعليق القوانين، وعبرها نستطيع نشر ثقافة التسامح والسلام والتعايش السلمي بين أطياف المجتمع، وفي هذا السياق يجدر بنا أن نذكر أن الكتابة عن الحرب تبدو في خيال البعض مهنة لا تقل بشاعة عن الحرب نفسها! حيث تُنقل اللحظات الأكثر بؤساً وعنفاً في تاريخ البشرية إلى الأجيال القادمة، لنكدر عليهم حياتهم بأحداث لم يعاصروها، وأهوال كانوا في غنى عنها.

ولكن الجانب الأكثر وحشية للحروب هو أنه سينتهي وإن تمدد، وتتصالح الدول والشعوب والقبائل، وسيظهر على السطح مجرمون برتبة زعماء، وسيمنح على الجنرالات أوسمة ونياشين وجوائز تقديرية لإباداتهم المروعة ضد الأبرياء، وسيجني أثرياء الحروب وصناع البؤس ملايين الدولارات من دماء الكادحين!

ووحدهم البسطاء يعانون ويموتون من أجل مبادئ ظالمة وحروب خاسرة في كل الأحوال، يزهقون أرواحهم، ويفقدون أحبابهم، ويخسرون أعضاءهم، وتصيبهم التشوهات من أجل مستبد همّه الكرسي وإن مات الملايين من أجله، ويستميتون في الدفاع عن ناهبي أوطانهم في حرب لا يعرفون أساسه ولا يدركون أهميته القانونية والأخلاقية والإنسانية! فقط سمعوا عبر أبواق المجرمين أنه الدفاع عن وطن لم يقدم لهم شيئاً سوى الفاقة والأمراض والجهل، حرب جيدة تستحق الموت علماً بأنه لا توجد حروب جيدة وأخرى سيئة. ويتساءلون بحسرة: لماذا السلم رغم جماله مفقود والحرب رغم بشاعتها موجودة؟

كيف نموت من أجل دولة يملكها طاغية وتحلبها عائلة وتبدأ من حيث تنتهي القبيلة أو المصلحة أو الطائفة؟ وظلت عاملاً هامشياً في حياتنا، ولم نعطها يوماً ولاء حقيقياً بعد أن ترسبت الموروثات الثقافية والاجتماعية وتأثير القبيلة وقدسيتها في مخيلتنا، وارتبط ولاؤنا الأول للقبيلة أكثر من الدولة، وبالتالي أصبحت الدولة عاملاً تابعاً للقبيلة وليس العكس؟ لقد أخذت الدولة في أوطاننا مفهوماً كارثياً بكل المقاييس، حيث اختفى التابع (الدولة) وبقي المتبوع (القبيلة) تتعملق وتسيطر على حياة الشعب، مما أدى إلى انهيار تام بالمؤسسات الوطنية واشتعال حرب أنتج شعباً شرساً ومتوحشاً للغاية يعاني من الأمراض النفسية والشحنات السالبة.

وبعد تعمق الخوف في عقول المجتمع تحوّل البشر إلى جلّادين، والعالم أفقاً شاسعاً من القتامة والظلامية، ووسعت تلك النظرة الشرخ الداخلي وأضعفت نسيج المجتمع وغرست في خيالهم أمراضاً وهلوسات سلبت السعادة والإيجابية عنهم، وبذلك اختفت قيم الأخلاق والجمال والدين، وانتشرت السلبية لتغطي مساحات شاسعة من قلوبهم، وتحوّل إدراكهم ووعيهم الجمعي إلى ثيمة يرون من خلالها المواطن وكأنه "آخر مختلف" يسعى إلى قتلهم وسطوة ما في جعبتهم.

وانتشرت الكراهية وعمّ الفشل بين الطبقات وأخفقنا في أن نبدأ الحياة من جديد بعد سنوات من الحرب المروعة، وبات الجندي الذي دأب القتال والسادية في الميادين والشراسة في الثغور يخفق في منح الحب لعائلته واحترام القانون، والطفل الذي فقد البراءة في براثن الحرب وبزغت طفولته في معمعة الوغى التكيف على الحياة الهادئة، بعيداً عن أزيز المدافع وزخات الراجمات والعنف الأسري والمجتمعي، والأم المكلومة التي فقدت فلذة كبدها التلذذ بسلام لا تعني لها سوى ذكريات موجعة.

لقد دمّرت الحروب كثيراً من أحلامنا وكرامتنا، وعشنا في ظل فوضى عارمة ووطن غارق بالدموية والأزمات السياسية والدينية والقبلية، وشكّلت الحروب أجيالاً من الصوماليين، وسحقت أحلامهم وأفقدتهم القدرة على الحياة والتبسم والتذوق للجمال وتقديس الحياة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حسن قرني
كاتب صومالي
حسن محمود قرني، كاتب من الصومال، يهتم بالأدب والتاريخ، خريج جامعة إفريقيا العالمية بالسودان كلية العلوم قسم الجيولوجيا، صدر لي كتابان «جنوباً ما وراء السافانا»، و«غوري». ولي كتابان تحت الطباعة: «الصومال.. حكايات الحروب والتاريخ» ومجموعة قصصية.
تحميل المزيد