يعرف هذا العصر اختلاطا مهولا لمعايير مختلفة وانقلابا كبيرا لموازين متعددة يفترض أن تكون هي الحاكمة في المجتمعات المتطورة فكريا، الشيء الذي يستدعي الكثير من العمل لتصحيح التصورات السائدة حاليا وتعديل التفكير المعطوب والسلوك غير السوي، فإن تركت الأمور على هذا الحال حتما ستؤدي بالبشرية إلى درب المهالك والخسارات الفادحة التي لا يمكن تداركها.
إن التطرق إلى ما يلزمه التقويم في تصورات الإنسان البعيدة عن الحقيقة أمر بالغ الأهمية خصوصا ما يتعلق بالمغالطات المنتشرة، فمثلا نجد العفوية باعتبارها من المواضيع الشائكة التي تتطلب إعادة النظر في الأحكام المسبقة القائمة عليها، فالأفكار المتداولة عليها معظمها خارجة عن نطاق الإدراك الحقيقي الصائب، الشيء الذي يفرض استحضار حيثيات العفوية ومقتضياتها. والسؤال المحوري الرئيس الذي تدور حوله هذه التدوينة هو: لماذا يعتبر العفويون أكثر الناس نقاءً في هذا الزمن المليء بالمتكلفين وأصحاب الأقنعة؟
تعد العفوية من الصفات البشرية التي تتناغم مع الضمير الإنساني، فبوجودها ترتفع يقظة الذات، وبها يستطيع المرء النجاة بذاته من اجتياح الخبث وفساد الأخلاق، ولم تكن ولن تكون أبدا العفوية في تصورها الصائب تعني التكلم في كل الأمور دون تفكر وتدبر، وإلقاء الكلام على عواهنه، والتصرف بحربائية وتكلف لأي سبب سواء بهدف المكر والخداع أو لشيء آخر، فلا شك بأن هذا التصور لا يدخل في نطاق المفهوم الصحيح والحقيقي للعفوية.
إن التعامل بالعفوية لا يعني القيام بتصرفات اعتباطية تخلو من التفكير المتعقل، بل يعني التصرف بسلوكات لا تشوبها شبهة تصنع أو نفاق، فليس بإمكان الجميع التعامل بمصداقية وصفاء نية، ولا تقتصر العفوية عن كونها نتاجا للفطرة السليمة، بل تتعدى إلى ما هو مكتسب لحاجتها للصقل والرعاية لتحسينها وحمايتها من أي خطر خارجي يمكن أن يزيل مرتكزاتها الأساسية ومعالمها البارزة، لهذا قال الكاتب والشاعر الإيرلندي أوسكار وايلد: "تعتبر العفوية فن في حد ذاتها".
والكلام هنا بالذات عن العفويين الذين يحكم قولهم وفعلهم الفكر المتزن والعاطفة السليمة والإحساس النبيل، أما الأشخاص الذين يتصفون بالبلادة والرعونة فلا يدخلون في دائرة الحديث، فالعفوية لا تجعل الأشخاص ساذجين مليئين بالغباء وقلة الوعي والتسرع في إطلاق الاحكام والكلام، في المقابل لا يمكنها أن تمنع من الوقوع ضحية النفوس الخبيثة التي تسلط على العفويين انتقاداتها القاسية وتعليقاتها السلبية بغية تحطيم صورتهم البراقة واللامعة في قلب الإنسان السوي، وكل ذلك لا يجعلهم يلعبون دور المتآمر عليهم، فهم يدركون صفاتهم النبيلة ويقدرون نقاط قوتهم الكامنة فيهم، وليسوا على استعداد لأن يغيروا أي شيء في شخصيتهم ليرضوا أحدا أو ليثيروا إعجاب غيرهم.
العفويون أنقياء لأنهم يتعاملون مع الأخر بوجه حقيقي، فالعفوية ولدت معهم ولا تتبدل مهما تغير الناس حولهم وجاروا عليهم، والنفوس السليمة الفطرة تهفو للعفوية والصدق وتحب الوضوح، بينما تنفر وتكره التكلف والمداهنة، بل وتبغض كل من يتصرف بمثل ذلك كبغضهم لخطاياهم، والعفويون في عمومهم صادقين وصرحين جدا مع من يتعاملون معهم، فنواياهم خالية مما يمكنه أن يسيء لغيرهم.
العفويون هم أناس لا يبخلون عن استقبالنا بابتسامتهم المشرقة التي تنثر وهجا جميلا تجعلنا نحس بنقاء قلوبهم المعطاءة بكل شفافية تامة وبتلقائية لا حواجز ولا تكلف فيها، فهم رمز للبساطة والسماحة في أرق معانيها، لهذا لا يكفون عن إيقاعنا في حالة من الدهشة والتعجب لما يعطونه للحياة من معنى وبعد بهي، ولما يمنحوننا من متعة برفقتهم لأننا نحس معهم بالأمان والطمأنينة، فهم يدخلون قلوبنا بدون استئذان، لهذا نشعر وكأن شيئا منهم ينتقل إلينا ويرسم صورتهم الصافية في مخيلتنا.
العفويون هم أصحاب الرأي الواضح والقلب الشفاف بغض النظر عن مستواهم الفكري وتحصيلهم العلمي ومركزهم الاجتماعي، فكل ما يخرج من قلوبهم لا يحتاج للتنقية والتجميل سواء كان كلاما أو إحساسا أو فعلا، وبطبعهم هم بشر بسطاء لا يتصنعون الكلام والمجاملات ولا يبحثون عن الردود ولفت الأنظار، وعند سؤالهم يردون بسرعة لتلقائية حديثهم، فلا تعارض بينهم وبين التفكير السليم ووزن الكلام قبل التحدث به ووضع الحساب المسبق لأي سلوك يراد التصرف به، والمقصود هنا بالخصوص العفوية المقرونة بالعلم والحكمة والميول إلى الصراحة في جميع الحالات.
العفويون يسعون دائما إلى الرفع من قدر ذواتهم بعيدا عن أعين الآخرين، فهذه الصفة تحمل معالم صلاح الجوهر وصفاء العمق، بالرغم من أن هذا الصنف البشري هو الأكثر عرضة للوقوع في المشكلات والمعضلات غير المتوقعة في هذه الحياة، ببساطة لأن النقاء الذي بداخلهم لا يتوافق مع التلوث الأخلاقي والفساد القيمي الذي تعج به النفوس البشرية في هذا الزمن.
الأشخاص العفويون يتميزون بالقدرة على أن يكونوا مرنين بتكيفهم السريع مع متغيرات الحياة المتقبلة التي تحدث بشكل فجائي؛ كخسارة أو فقدان أي شيء، كما أنهم يعتبرون خيبات الأمل مجرد تجارب يتعلمون منها لمستقبلهم فيما بعد، وهذه من نقاط القوة التي يمتلكها العفويون، لأن لديهم القدرة على استعادة توازنهم من خلال تسخير القوة الداخلية النابعة من قلوبهم، والتي تساعدهم على التماسك بعد كل انتكاسة أو تحد كيفما كان.
العفويون ناضجون ويتصرفون على سجية ولا يحاولون إثبات نقائهم لغيرهم، بل يتعاملون مع الجميع بكل أريحية وبمشاعر طبيعية دون قيود وإن اختلفت المواقف والظروف، وأستحضر هنا قول الكاتب الروائي والرسام الأمريكي هنري ميلر: "إن النضج يكتمل عن طريق التصرف بتلقائية وعفوية دون التقيد بقوانين معينة"، لذلك فهم قادرون على إسعاد ذواتهم واكتشاف متعة الحياة في أي شيء وبجميع الحالات، لأنهم لا يربطون حصول ذلك بأمور خارجية، بل هم من يخلقون ذلك باستمتاعهم باللحظة في ممارسة أي نشاط سواء بمفردهم أو برفقة أحد.
الأشخاص العفويين لديهم حماس كبير يحفزهم لفعل أمور مختلفة دون الوقوع رهينة الارتباك أو الشعور بالملل والرتابة، بالرغم من أن الضجر صفة إنسانية لا محيد عنها، إلا أنهم يستطيعون كسر الروتين بشكل سلس ولا يتركونه يغل حياتهم، ولا يفسحون المجال لأي شيء آخر ليؤدي بشكل غير مباشر إلى انطفاء نشاطهم وسعيهم الدؤوب.
العفويون يمتلكون حس المرح والدعابة الذي يعينهم بشكل فعال على تحسين صحتهم النفسية، ويساعدهم على الخروج من المواقف الصعبة، فليس بالضرورة أن تكون فكاهيا لتمتلك هذا الحس، كما أنهم ينظرون بكثرة إلى جانب المشرق للأشياء، وهذا لا يعني أنهم لا يقدرون على إدراك الجانب المظلم، بل لأن تفاؤلهم جعلهم ينظرون إليه نظرة المصلح بعيدا عن السوداوية القاتمة والسلبية القاتلة.
ومن المؤكد أن حياة العفويين لا تختلف بين العالم الواقعي والافتراضي فهم يمارسون عفويتهم في كل مكان، كما أن الرواق والهدوء ملازم لهم، لعدم انشغال بالهم بما لا يعنيهم، فكل ما يهمهم أن يكونوا كما هم، فلا يظنون السوء بأي كان، ولا يشككون في محبة الناس لهم، لأنهم يدعون المواقف الحياتية تتكلف بمهمة الحكم على الآخرين، ولا يرجعون سبب انتكاساتهم إلى غيرهم، بالإضافة إلى أنهم يصبحون ويمسون على اطمئنان؛ فلا يكترثون بالحساد ولا يراقبون حياة أحد، ولا يتقولون على أي كان ولا يحملون السوء لأحد وإن تعمدوا ظلمهم والإساءة إليهم.
في النهاية من الضروري التأكيد على أنه رغم كون الأشخاص العفويين رمز من رموز التواضع والبساطة والطيبة والمرونة، وعدم التكلف والرسمية في أمور الحياة التي تكتظ بالعنفوان والخداع والكذب، إلا أن الكثير من الناس لا يفهمونهم ولا يعطونهم حقهم، بل ويحاولون تشويه صورتهم لأنهم غير قادرين على أن يكونوا مثلهم ولن يفلحوا في ذلك أبدا.
عيشوا حياتكم بكل تلقائية ولا تكترثوا أبدا لسوء ظن غيركم وأوهامهم الخبيثة وسلوكاتهم المشينة، وكونوا دائما معتزين بعفويتكم ما دامت تنبع من صفاء نيتكم ونقاء سريرتكم، وإن وضعتكم في مواقف لا يحمد عقباها وجعلتكم في مواضع التهمة، لهذا فإياكم أن تلوموا طهركم، إذ ليس هناك أفضل للمرء من أن يعيش بقلب عفوي لا يختلق كذبا ولا يتصنع زيفا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.