وكأن قدَرَ الجنوب في كل بلاد الدنيا ازدراءُ شمال مُرفَّه، من جوبا القريبة، إلى يمن الخليج المترع بالنفط وقاذفات الموت الشقيقة، مروراً بجزر الفقر والمافيا وبيتزا كمبانيا تحت قدمي نيرون روما "العظيمة"، وصولاً إلى جبال نيومكسيكو جنوب كبرى إمبراطوريات العالم الحديث التي تحاكي أوجاع سلالة قبائل نافاهو وبويبلو، على سفوحها الوعرة ديموغرافياً قبائل جنوبٍ معدمٍ في ليبيا الذهب الأسود والسلطة والسلطة الموازية.
فقرٌ وأشياء أخرى تسابق رمال الصحراء الكبرى زحفاً لا يُمهل، لتبتلع مدناً وبلداتٍ وقرىً شِبهَ منسيَّة، مُبقِية فراغاً أمنيّاً مُريعاً، خلفه غياب الدولة ومؤسساتها، وتُهدد ما تبقى من مظاهر حياة ليست كالحياة، كأنَّ أهلها لا يَمُتّون بِصلة إلى أهل شمالٍ أوفر حظّاً في الحرب والسِّلم.
تتشابه الأزمات، بل الكوارث أحياناً، وتختلف على الدوام ردود الفعل باختلاف الجغرافيا، سُنّةٌ كونية فرضتها هنا المصالح الضيقة في أروقة دوائر الحكم وصنع القرار، المصابة على الدوام بفوبيا "جنوبٍ" تفرُّ منه لاهثةً إلى شمال النفوذ والمال والسلطة.
سيقول قائل ولا بد: إن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذي بات يستهدف أخيراً مدن الجنوب البعيدة وبلداته؛ عاث فساداً قبلها بمدن الشمال والشرق والغرب، وإنَّ تصدُّع الدولة والفراغ الأمني والجريمة المنظَّمة والتدهور الاقتصادي مظاهر تجمع مناطق ليبيا كلَّها أكثر مما جمعها الساسة المتناحرون..
كلامٌ شبيهُ الحقيقة في ظاهره بعيدٌ عنها في ميزان الفعل ورد الفعل، والأمثلة أكثر مما يتسع لها المقام، وهجوم تازربو الأخير في أقاصي جنوب صحراء ليبيا لا يعدو كونه رقماً يضاف إلى قائمة سوداء طويلة.
المصائب لا تأتي فرادى، يقول حظُّ جنوبٍ عاثرٍ في مقابل لا شيءَ أكثرَ من عنترياتِ إدانةٍ واستنكار، وبكائيات ترحُّمٍ رخيصة على القتلى والدعاء للجرحى في آلة تدوير العهر السياسي الممنهج، ببلاد لا حظَّ لها من السياسة سوى الاحتراب عليها، بعد أربعة عقود خلفت صداماً دامياً، يفسره فيلسوف ليبيا، الصادق النيهوم، قبل أن يحدث بعشرات السنين؛ بأنه نتيجة عجز الفلسفة السياسية عن إيجاد الحد الفاصل بين الحرية والفوضى.
فوضى تهدد ديموغرافيا وهوية وكينونة بلاد كأنَّ قدرَها أن تكون مطمع كل طامع، على مر تاريخٍ لم تكن فيه سوى ساحة لمعاركِ غيرها، من روما القديمة إلى روما الفاشستية، وختاماً بروما المعاصرة، والمعرقلة لمشروع احتلال فرنسي ناعم ترى نفسها الأَولى به، ليبقى مصير الجنوب والشمال واليوم والغد -توافقاً ودستوراً وانتخاباتٍ- وكلّ ما يدور في قاعات فنادق الشمال الفاخرة رهْناً بمصالح عملاقتي النفط والغاز: إيني (إيطاليا) وتوتال (فرنسا)، وبمخزون النفط والغاز وما حَوَتْ أرض ليبيا وشطآنها من كنوز.
ولكن، ماذا لو سلَّمنا جدلاً بأن النفط الذي لم يجنِ الجنوب منه غير تلوث بيئي ودمار أسقطته وسائل الإعلام -عمداً أو سهواً- من قوائم أولوياتها عقوداً؟ ماذا لو نفِد هذا السائل الأسود الثقيل ثقل أزمتنا الوطنية المزمنة، اللزج لزوجة مواقف أصحاب القرار فينا؟ ماذا لو نفِدت هذه النعمة/النقمة ولو بعد قرن من الآن؟ حينها ماذا سيقدم ساسة الشمال ومسؤولوه ورجالات أعماله لجنوب لا يأتيهم منه سوى المهاجرين والأوبئة ورياح القبلي العاتية، أو في أفضل الأحوال عمليات "إرهابية" تزيد بالمجان من أسهم المزايدات الوطنية بين متصارعين لا حصرَ لهم، في معارك طواحين الهواء التي لا تنتهي؟
وفي خاتمة القول، وإن بدا مجمل الحديث آنفاً عاطفياً وطوباوياً، فإننا في الواقع نقف، ساسة وشعباً، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، عاجزين أمام تشظِّي جنوبٍ يشكل أكثر من ثلثي مساحة بلد أضحى مطمع القاصي والداني، وأمام ظاهرة تحوُّل ديموغرافي غير مسبوق، ونزوح جماعي لسكان واحات الجنوب وقراها المنسيَّة بعد هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" المتكررة، وصولات وجولات عصابات الحرابة والمهربين من دول جوار الجنوب، نزوحاً نحو تجمعات الشمال السكنية المترهلة.. هرباً من أزمة جنوب باقية وتتمدد، ولا حل يلوح لها في أفق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.