هل يمكن للفكر الحر أن يعي شعور الخضوع.. فلسفياً، ما الحب؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/10 الساعة 11:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/12 الساعة 10:11 بتوقيت غرينتش
الحب - iStock

إن ما هو دارج عند أغلب الناس، أن الفلسفة منذ نشأتها وهي تصارع لكي ترسي سمات عقل جديد مختلف، وضعت له آلياته وأدواته المنطقية، والتي إذا ما أراد شخص نهم للمعرفة اليقينية أو باحث عن حقيقة الأمور أن يتسلح بها ويجعل منها نبراساً له من كل المعارف الجاهزة والراسخة، فيبدأ التساؤل، هل يمكن لمجال معرفي كالفلسفة والذي، ينتصر للعقل كمصدر لبلوغ المعرفة أن يحتضن مجالاً عاطفياً، كالحب الذي مصدره القلب والذي قد يخلو من كل تعقل. وما يزكي هذا الطرح لديهم هو نظرة معظم الفلاسفة للمرأة أو أخذ عالم الأنثى بنوع من السخرية، كما جاء على لسان سقراط "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيداً، وإن لم توفق أصبحت فيلسوفاً"، هكذا يكون الحكم عن طبيعة علاقة الفلسفة بالحب عند بادئ الرأي.

فهل حقاً يمكن أن نقول إن الفلسفة والحب لا يجتمعان؟ وهل وضعت الفلسفة مقياساً للحب؟

وإذا كان أجمل ما عرف عن الحب في الفلسفة هو الذي جمع بين سارتر وذي بوفوار وكذا هايدجر وحنا آرندت، فهل يمكننا الحديث عن نظرة فلسفية معاصرة مختلفة نوعاً ما عن ما كان يسود قبلاً (إريك فروم نموذجاً)؟

مهما كانت أطروحات الفلاسفة متعددة ومختلفة حول مفهوم الحب، فلم يبرأ معظمهم من الوقوع في هذا الفخ المرغوب، فأن تكون فيلسوفاً لا يعني أن تتجرد من المشاعر، لأن في هذا انتفاء لأهم سمة تتصف بها الإنسانية. سيمون ذي بوفوار وسارتر كمفكرين تحديا كل التقاليد الاجتماعية وابتكرا علاقتهما واتخذاها علناً، وكان مبدأهما الرئيسي الذي حكم علاقتهما هو أن حبهما مطلق بينما حب الآخر ثانوي، لنجد أجمل ما قاله "إنني أشعر بمتعة لم تتعرفي عليها بعد، متعة الانتقال المفاجئ من الصداقة إلى الحب، من القوة إلى الضعف إلى الحنان".

في  رسائل هايدغر لحنا آرندت تبدو لك الفلسفة تسيل من الدماغ لتساند كلمات الحب التي كثيرا ما تخون عندما يقرأها المحبوب، يقول هايدغر "العزيزة حنا، لماذا يكون الحب فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى ويكون ثقلاً حلواً بالنسبة للمعني بالأمر؟ لأننا نتحول إلى ما نحبه، لكننا نقبر أنفسنا". هايدغر صاحب كتاب "الكينونة والزمن" يعتبر أن الحب والكراهية الشعوران الأصليان لدى الإنسان اللذان يحملان مسافة زمنية واستمرارية حقيقية في وجودنا، فكانت حنا آرندت هي الملهمة الهايدغرية، كتب لها مرة "تعرفين أن من يقع فريسة الحب لا حماية له، بينما الذي يقع في بقية الأشياء الصعبة فهناك طرق ومخابئ يحتمي منها".

هكذا تبين لنا أن الحب لم يتمظهر كتيمة أساسية تضاف إلى مواضيع الفلسفة المتنوعة، وإنما شكل الفلاسفة رموزاً رسخت هذا الشعور (الحب) بمفاهيم ودلالات مغايرة حققت بذلك تصوراً مختلفاً لما هو سائد في الأدب عموماً، فأكسبته الفلسفة غنى آخر يضاف إليه.

خصص الفيلسوف الأميركي إريك فروم كتاباً في هذا الصدد، أسماه "فن الحب"، ابتدأ فيه بالتساؤل، هل يمكن اعتبار الحب فناً؟ وقد ألف هذا الكتاب للجواب عنه، إن معظم الناس يعتبرون أن الحب إحساس باعث على اللذة، إلا أنه إذا ما اعتبرنا أن الحب فناً فهذا يقضي بذل جهد من أجل فهم هاته الفرضية، فما هو معروف عند عامة الناس أن الحب شيء بسيط، أما الصعوبة فتكمن في إيجاد الشخص الذي يستحق هذا الحب، لكن الأمر على عكس ذلك حسب فروم، لأن الحب فن يجب الوعي به أولاً، ثم تعلمه والذي يتم عن طريق عملية تقسم إلى قسمين: القسم الأول هو السيطرة على النظرية.

والقسم الثاني هو السيطرة على الممارسة، والذي يتناوله في الفصل الأخير من الكتاب.

في القسم الأول يتحدث فروم عن الحب باعتباره نظرية تجيب على مشكلة الوجود الإنساني، فأعمق حاجة لدى الإنسان هي الحاجة إلى تجاوز عزلته، وتحقيق الاندماج مع الأشخاص في الحب لكن هذا الاندماج يكون بطرق شتى، وهنا يمكن أن نميز بين نوعين من الحب، الحب كحل ناضج لمشكلة الوجود، والحب باعتباره وحدة تكافلية (الحب غير الناضج). النوع الأول حسب فروم يجعل الإنسان يتغلب على الشعور بالعزلة والانفصال، لكنه يسمح له أن يكون هو نفسه، "هذه الرغبة للاندماج مع شخص آخر هي أكبر طوقان لدى الإنسان"، يضيف فروم هنا صفة النشاط لمفهوم الحب، فالإنسان يكون حراً عندما يمارس شعوراً إيجابياً فيكون سيد شعوره، وهو عندما يمارس شعوراً سلبياً يكون منساقاً، والحب ليس شعوراً سلبياً، هو الوقوف وليس الوقوع، يتحدث هنا عن الطابع الإيجابي للحب والذي يتجلى في العطاء وليس التلقي، فالعطاء هو المبعث للفرح لا لأنه حرمان، ولكن فعل العطاء هو تعبير عن شغف العطاء. والجزء الجميل الذي يضيفه فروم تعزيزاً لمفهوم العطاء هو أنه لا يجب أن يرتبط دائماً بالتضحية لكي يسمى حباً، بل على المحب أن يعطي من الأشياء التي تنبض فيه، أن يعطي "من فرحه، من فهمه، من علمه، من مرحه، من.." وإلى جانب عنصر العطاء يضيف الفيلسوف الأميركي عناصر أخرى وهي الرعاية والمسؤولية والاحترام والمعرفة.

أما النوع الثاني: الوحدة التكافلية (الحب غير الناضج)، شبهها فروم بعلاقة الأم الحامل بالجنين، أي العيش معاً متكافلين كل واحد يحتاج للآخر، فالجنين يحتاج للأم لأنها تطعمه وتحميه وهي كذلك حياتها تتجمل به، إلا أنه في الوحدة التكافلية النفسية يكون الجسدان مستقلين، لكن مضمون النوع نفسه يتجسد سيكولوجياً، يعتبره فروم غير ناضج لأنه شكل للخضوع.

في الفصل الأخير من الكتاب يواجه إريك فروم مشكلة ممارسة فن الحب والتي يعتقد أنها الأشد صعوبة، فأي شخص يريد أن يصبح أستاذاً في هذا الفن، يجب أن يبدأ بممارسة النظام والتركيز والصبر في كل فترات حياته. والشرط الأساسي لتحقيق الحب هو تجاوز النزوع النرجسي لدى الإنسان، متسلحاً بالموضوعية كمفهوم مضاد، فهي الملكة التي نرى بها الأشياء كما هي والناس كما هم. إن القدرة على الحب حالة تطلب اليقظة الدائمة والتي لا يمكن إلا أن تكون نتيجة فعالية مثمرة في كل مجالات الحياة، كل محاولاتك في الحب ستبوء بالفشل ما لم تكن أكثر فعالية في مختلف مجالات الحياة.

الحب إذن لم يكن من اهتمامات الروائيين والكتاب الأدبيين وإنما شغل الفكر الفلسفي في كل محطاته التاريخية، أغناه بالاختلاف الدلالي لكل فيلسوف على حدة.

 الفلسفة التي لم تكن يوماً لمن يبحثون عن إجابات قاطعة دون عناء، التي لا تقبل بالجاهز كتأطير أو تحديد، فكر يتنفس الحرية وبها يزهر وينمو، والحب هو الشعور المسكر والمؤلم، نسبح في عذوبته ثم ما نفتأ ننجو من أعاصيره، في محاولتك لأن تطل على الحب من نافذة الفلسفة فإنك تفتح فكراً يسبر أغوار الأعماق المخيفة على شعور يرفع صاحبه إلى الأعالي، وعندها لن تستطيع إغلاقه أبداً، وتتساءل في نفسك من جديد "هل يمكنني حقاً أن أعي الحب؟"

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عهود الناصري
أستاذة مادة الفلسفة بالثانوي التأهيلي
تحميل المزيد