ينشرونه ثم يدّعون محاربته! هكذا تتم صناعة الخوف

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/10 الساعة 12:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/10 الساعة 12:51 بتوقيت غرينتش
صناعة الخوف - iStock

الخوف هو الشعور القويّ بالرهبة تجاه أمرٍ ما نواجهه، وقد يكون هذا الشعور واقعاً وحقيقيّاً، وقد يكون عبارةً عن تهيؤاتٍ أو خيال.

ويُعد الخوف أقوى أعداء العقل دون منازع، ونادراً ما يتمكن العقل من السيطرة عليه، لكن في الغالب يتمكن الخوف من الاستحواذ على العقل تماماً.

وفي هذا الصدد يقول السياسي الأيرلندي إدموند بيرك : "ليس هناك شعور يسلب العقل كل قوى التصرف والتفكير بصورة فعالة مثل الخوف".

وذكر الفيلسوف الروماني لاكتاتيوس منذ قرون أن الخوف والحكمة لا يجتمعان في مكان واحد.

لم يعد الخوف مجرد أعراض نفسية يهتم بها علماء وأطباء النفس، بل أصبح صناعة تحترفها الأنظمة الاستبدادية سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو مدنية، تحدثت ناعومي وولف في مقال لها بجريدة الجارديان عام 2007 عما أسمته بـ"تصنيع الفاشية"، أو ما يعرف اليوم بـ"صناعة الخوف"، التي يبدو أنها امتدادٌ لقاعدة ميكافيللي الذهبية للحكام: "من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبوك..!".

يمكن للخوف – تحت ظروف معينة – أن يقنع الكثيرين بالتنازل عن بعض الحريات مقابل وعود بالأمن والاستقرار، وهذا هو دأب القادة والسياسيين المستبدين عبر التاريخ، وتتغير أشكال الخوف حسب ما تقتضيه الظروف ونوعية الجماهير المستهدفة، فالخوف في زمن حرب الثلاثين عاماً في أوروبا كان الساحرات، وفي ألمانيا النازية  كان الشيوعية واليهود، أما في إسبانيا زمن "فرانكو" كان الاشتراكية والبربرية، ليواصل الخوف رحلته عبر العصور حتى اقترن في عصرنا الحالي بـ"الإرهاب".

الخطة القديمة تجدد، بصناعة تهديد مرعب وغير محدد المعالم، وبذلك يجري التخويف من الإرهاب- الشيوعية- المؤامرات الخارجية – البربرية…إلخ.

 الساسة والخبراء الاستراتيجيون يعلمون جيداً أن عامة الناس مستعدون للتنازل عن حريتهم إذا شعروا أن هناك خطراً حقيقياً يتهددهم، وتصبح الجماهير -في هذه الظروف-  مستعدة لتقبل كافة الممارسات الدموية للسلطات الحاكمة ما دامت تتم في حق غيرهم.

لا يمكن  نشر الخوف  بين الجماهير دون تجسيده  في صورة أعداء داخليين وخارجيين، فحينما يخاف الناس لا يتنازلون فقط عن حريتهم، بل  يضحون حتى ببعض من  مقومات حياتهم الأساسية، ففي الوقت الذي كان "يلتسن" يدكّ  البرلمان الروسي بالدبابات كان يصدر قرارات اقتصادية أفقرت الشعب الروسي فيما بعد، قانون الباتريوت الأميركي المشبوه الذي سلب الأميركيين حرياتهم الشخصية، مُرر في أجواء أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحت مبرر الحرب على الإرهاب، حريق الرايخستاغ في 27 فبراير 1933 تم اتخاذه كذريعة لقمع الشيوعيين الألمان ولإحكام سيطرة النازيين على مقاليد الحكم في ألمانيا.

لا بد لأي سلطة كي تسيطر على الجماهير أن تُحكم قبضتها على ما يلقى في عقولهم، فتتحكم بوسائل الإعلام والاتصال وكافة المنابر، كل الديكتاتوريات فعلت ذلك "موسليني" في إيطاليا الفاشية، و"هتلر" في ألمانيا النازية، ودول أوروبا الشرقية إبان حكم الأحزاب الشيوعية، وديكتاتوريات المنطقة العربية ما بعد الاستقلال، وديكتاتوريات أميركا الجنوبية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وغيرها كثير.

وفي هذه الأجواء من الرعب والتحريض يجري استهداف رموز المعارضة من مختلف التوجهات، ما يجعل الناس يشعرون بأن الكل مستهدف بعد التنكيل بالرموز التي عادة ما تكون مقدسة لدى الجمهور، ويتضح لهم أن السلطة لن تتهاون مع أحد في الحفاظ على مصالحها، بالإضافة إلى هدف آخر  مُهم وكبير – لضمان استمرار هذه الوضعية-  وهو جعل فئة كبيرة من الناس تصدق وتقتنع بكل ما يبث من أكاذيب وتحريض.

ولا تتوقف السلطة المستبدة عند المعارضين فقط، بل توسّع دائرة الخوف لتطال المتعاونين والأقارب أو حتى المتعاطفين معهم، وهي أمور نشهدها في زمننا هذا، فلا يمكن أن يتعاطف الناس مع خائن أو عميل -بحسب تصنيف السلطة-  لأنه يتآمر ضد مصلحة البلد، أو يتعاون مع أعدائها، وبهذا تتسع تهم الخيانة والتجسس والتآمر لتصبح فضفاضة إلى أقصى حد ممكن.

وما يجعل عمليات التحريض أكثر آليات السلطة خطورة، يقول عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون إن الجماهير لا تفكر عقلانياً عند تلقيها المعلومات، فهي تتبنى الأفكار مرة واحدة أو ترفضها دون مناقشة أو اعتراض، ودائماً ما تتبنى الجماهير العواطف العنيفة والمتطرفة، فالتحريضات المؤثرة عليها تغزو عقلها وتجعلها تميل للتحول إلى فعلٍ وممارسة فوراً.

وتعزز الدولة سيطرتها عبر استصدار القوانين الاستثنائية أو ما يعرف بــ "حالة الطوارئ" التي أصبحت ذريعة تتخذها الحكومات لتمرير أي إجراءات ستكون غير مقبولة في ظروف مستقرة، ويمكن أن تستمر حالة الطوارئ هذه أشهر، أو سنوات، وربما عقوداً أحياناً..!

جزء من هذه الأمور هو صراع نفوذ وتصفية حسابات، والجزء الأكبر منها هو إحكام السيطرة من قبل مستبد جديد أو تعزيز سيطرة ديكتاتور قديم، والمفارقة أن المتضرر من إشاعة الخوف في البلاد هو الشعب الذي ساهم هو نفسه بكل أسف في تمرير هذه اللعبة.

وهكذا تُخدع الشعوب وهي تتشوق للأمن والاستقرار فيشيع المستبدون أجواء الخوف والعنف والفوضى ثم يزعمون أنهم سيحاربونها.

كتب الشاعر والكاتب الإسباني فرناردو آرابال رسالة طويلة للجنرال فرانكو يذكره فيها بما جنته إسبانيا من الحرب الأهلية تقول إحدى فقرات الرسالة:

"مناخ من الفوضى وانعدام الأمن كان يعصف بإسبانيا، هذا ما بررت به انقلابك العسكري وقلت حينها إن إسبانيا كانت بربرية صرفة..!

إنك أنت من أتى بالبربرية، تلك التي كانت في عصر ملوك الكاثوليكيين والاستبداد الديني، فأنا لا أعتقد أن هناك أخياراً وأشراراً، هناك فقط عنف أعمى وضحية مغمورة بالرماد".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عماد المدولي
صحفي ليبي
تحميل المزيد