ينبض الوجود بين طبيعة النفس وكيان الروح، متى حلَّ الأمن زال الغمُّ، ولا مكان لحياة صاغرة؛ فالتباين أساس وحضور، منبع وجذور، لا يخلو حال من حال سوى إن أتى بال هادئ لا يستوحيه الضجر!
فالوجوم عن الكلام الذي يعتريه الهجاء، منارة للقلب وكسر للظلام؛ فكلما غادر الشكوى يأنف الحضور الخلل من سقم الذات وشرود الفكر واختلال خفقان القلب وتبدُّل النفس بين الثانية والثانية. هل كل أحوال الوجود تستدعي أن نحتاط أنفسنا بالزيغ والفتور؟ ألم نوقن بأن الطبيعة تختلف بطبيعة الاختلاف وبين الوجود واللاوجود؟ ماذا أحلَّ بنا لنترك النفس التي نملك ولا نصغي إلى أرواحنا؟
الدين يأبى هلاك النفس، أين وجدك الله أزهر بروح الله في قلبك، لا تنفرد على شتاتك، فكيف تنجو من عذاب يدك؟! إن أطفأت سراج الوقت وأقفلت يداك في مكان مظلم دون أحد، فهل سيأتي عليك من ينقذ عتمات قلبك إن خَلَتْ من وجود الله؟! أي هلاك ذاك الذي تجنيه نفسك!
ماذا جلبت سوى النفاق والخديعة والكذب؟ ما حجم روحك بين هؤلاء؟
هذه اللصوص اللغوية إن اجتمعت في إنسان أهلكت وجدانه وطرقت كيانه بغفلة بعيدة عن الصحوة، أشركته في شِرك البعد عن الله، أوقفته عن حياة كُتبت له، أغرقت سبل الوصول إلى غاياته، أعارته غدراً متسولاً في روحه، روت عطش قلبه بنار متوهج، أطاحت به في وادٍ عميقٍ يتخلل فلتات أوردته الممزقة، أشعلت براكين الحزن الظالم تحت جلده الممزق، أرعبت عينيه بخيالات مستوحاة من رعب لا وجود له! وكل وقته كأنه هائم في لا مكان.
جَلد الذات إنهاكاً وسطوةً مخالفةٌ لشرع الله، ألم ترون كم ردَّد الله في كتابه الكريم: "يا أيها الإنسان"، "يا أيها الناس"، "يا بني آدم"، هذه الكلمات تصرح بالقيمة الإنسانية وفق ما تقتضيه البلاغة والحكمة؛ فأي هلاك يشنه الإنسان على نفسه؟ كما قال الله -تعالى- في سورة النساء: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً (1)". وقال سبحانه: "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً" (النساء: 79). وقال: "وما أصابكم م مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" (الشورى: 30).
ماذا ينبغي لنا سوى أن نؤمن بالقدر ونسلم حياتنا بيد الله؛ فما ننال من خير فمن الله، وما يقتضي علينا الشر فمن أنفسنا، حيث قال الله تعالى: "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ". "قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" (الأعراف: 23 و24).
حين تؤمن بأن ودائع الله لا تنفد، أجدت التوكل على الله، فقد قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: "ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلَّق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه (الطلاق:3)".
فمتى ننهزم؟ حين نفقد أثر الله في قلوبنا والإيمان به في شرعية الوجود.
احتجاب غشاء السعادة عن عيوننا، منبعه فقد النفس وجود الله؛ فالوجودية حتمية الطبيعة التي أوجدها الله بخلاف مساورة الهموم والشرود بالنفس نحو الهلاك والتفكير المتشتت، الذي يخلو من ذكر الله، والاستشعار بعظمته، فحياتنا منبعها وجود الله في قلوبنا، وأن نرجوه في حاجتنا، وأن نوقن بعطائه ورحمته، فأي سعادة ستنير وجوهنا بالبعد عن الله؟! لنعُد إلى الله بقلوبنا، لنصحوَ من غفلة هلاك النفس وضياع العقل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.