الأدمغة العربية.. تُحلق في الغرب وتزحف في الشرق!

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/03 الساعة 11:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/12 الساعة 10:22 بتوقيت غرينتش
اللاعب المصري محمد صلاح

لعل الدافع لكتابة هذا المقال هو ما استوقفني في مشوار اللاعب المصري المتألق محمد صلاح، خصوصاً عندما رفض أحد أشهر الأندية المصرية انضمامه إليه قبل احترافه في أوروبا، وشاهدت آنذاك المقابلة التي أُجريت مع ممثل النادي عبر شاشة التلفاز، والتي قال فيها ما معناه إنه من المبكر انضمام محمد صلاح للنادي المذكور، وإنه (أي صلاح) يحتاج مزيداً من الوقت والجهد حتى يكون مؤهلاً للانضمام للنادي.  

وشاءت الحكمة الإلهية المطلقة تقديم نادي بازل السويسري، بعد ذلك بفترة وجيزة، عرضاً لمحمد صلاح، ما دفعه للانضمام لذلك النادي مقابل مبلغ لا يتجاوز مليونَي يورو. 

وفُتحت أبواب المجد والشهرة لذلك اللاعب المجتهد والملتزم والمثابر، بعد انتقاله من نادي روما الإيطالي إلى نادي ليفربول الإنكليزي، توّجت بحصوله مؤخراً على لقب أفضل لاعب في الدوري الإنكليزي، حسب استفتاء رابطة اللاعبين المحترفين، إضافة إلى حصوله على لقب ثالث أفضل لاعب كرة قدم في قارة أوروبا، وفي العالم، بشكل رسمي. 

ولعل قصة صلاح تعكس تلك العقلية التي تُهيمن على من يتسلّمون مقاليد الأمور في بعض المجالات في العالم العربي، كالاقتصادية، والاجتماعية، والرياضية، وحتى الأكاديمية.

ويحضرني في هذا السياق قصة شخص أعرفه حق المعرفة، حاصل على شهادة عُليا من جامعة أوروبية معروفة، تَقدَّم بطلب للعمل في إحدى المؤسسات الأكاديمية العربية، وأفاد بأنه لاحظ أثناء المقابلة قيام أحد أعضاء لجنة المقابلة بالاطلاع على كشف الدرجات الخاص به (أي للمتقدم لشغل الوظيفة) بطريقة عكسية، تعكس عدم إلمام عضو لجنة المقابلة باللغة الإنكليزية.

وعرفت قبل فترة وجيزة، أن أحد الأشخاص العرب المقيمين في الغرب، وبعد أن تم قبوله/ا لشغل وظيفة عضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات العربية، واجه/ت مقاومة شرسة من القيّمين على مقاليد الأمور في الكلية، التي عمل/ت بها، لا لشيء سوى لكونه/ا أظهر/ت نشاطاً بحثياً خلال فترة وجيزة من عمله/ا، وجاء/ت بطرائق ومنهجيات حديثة في التعليم، تعتمد على التفاعل أثناء المحاضرات، وإعمال التفكير النقدي والتحليلي، ما أحرج بعض أولئك العاملين في تلك الكلية بشكل عام، والقسم المعني بشكل خاص، كونهم لا يقومون بأي نشاط بحثي أو أكاديمي أو منهجي، ويعتمدون أساليب تقليدية تلقينية في التعليم، ما سبَّب له/ا متاعبَ ومصاعبَ؛ نتيجة العقلية الرجعية والقبلية والاقصائية لبعض أولئك القيّمين على مقاليد الكلية التي عمل/ت بها، وبعض زملائه/ا.

وتجاوز الأمر ذلك بقيام بعضهم بتوجيه عدد من الطلاب والطالبات من عديمي الضمير لتقديم شكاوى كيدية ضده/ا، من أجل إحراجه/ا أمام إدارة الجامعة التي عمل/ت بها، ما مهّد لمغادرته/ا؛ حفاظاً على سمعته/ا الأكاديمية، وحماية لفكره/ا، خصوصاً أنه/ا من أصحاب العقول، وهو ما اضطره/ا إلى حزم حقائبه/ا والعودة إلى الغرب، حيث ينشغل مَن يعمل في المؤسسات الأكاديمية الغربية بتطوير قدراتهم وملكاتهم وزيادة معارفهم، ومراكمة خبراتهم، عوضاً عن الانشغال بتدبير المؤامرات والدسائس والمكائد، كما يحدث للأسف في معظم دول الشرق، ما يعكس مركب النقص الكامن في نفوس بعض أولئك ممن يعملون في الشرق، الذي يتم تعويضه بواسطة تدبير المؤامرات وفرض الرؤى، بطريقة أقل ما يقال عنها إنها عسكرية في طبيعتها، وتعسفية في مضمونها. 

وتعكس تلك التصرفات الشاذة وغير السوية وغير الأخلاقية حجمَ الخلل الذي يحكم عقلية بعض المسيطرين على مقاليد الأمور، في بعض القطاعات في العالم العربي، وهو ما دفع العديد من الأشخاص للعمل في دول غربية، وجدوا فيها ملاذاً آمناً لتحقيق طموحاتهم وتنمية قدراتهم وتقديم ابتكاراتهم ومساهماتهم للإنسانية قاطبة، وتُعرف تلك الظاهرة في التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية باسم "هجرة الأدمغة". 

ونشأت تلك الظاهرة نتيجة ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية مرَّت بها وعانت منها بعض النخب الفكرية والأكاديمية في عالمنا العربي، منها ما سلف ذكره كأمثلة.

 وتلك العقليات الرجعية تحكمها الأهواء الشخصية، وتتنازعها المصالح الفئوية والقبلية والعصبية الضيقة، ولا يحكم أصحابها المبدأ ولا المهنية. ولعل ذلك يفسر حجم الخلل الموجود في عالمنا العربي، فإذا كانت بعض النخب المزعومة في المجتمعات العربية تتصرف على تلك الشاكلة، فماذا نتوقع إذن من العوام.   

وحقيقة الأمر أن الغرب يحثّ على العمل، والبحث العلمي، عكس معظم دول الشرق للأسف، خصوصاً في عالمنا العربي، التي لا تُولي اهتماماً خاصاً للبحث العلمي في القطاعات كافة. 

لذلك نجد أن الغرب يتطور، والشرق يتأخر. ولذلك أيضاً نجد نماذج كثيرة من أصحاب العقول من الشرق يُبدعون في الغرب، بعد أن حصلوا على الفرص الكفيلة بتحقيق أهدافهم وطموحاتهم العلمية والمهنية، تلك الطموحات التي غالباً ما تتحطَّم على صخرة بعض العقليات الرجعية والقبلية والأنانية الضيقة في الشرق.

لذلك، يكون لزاماً علينا تصحيح النهج وتقويم المسار في التعاطي من قِبَل القيمين على الأمور في المجالات كافة، في العالم العربي؛ منعاً للظلم الذي حرَّمه الله على نفسه، وجَعَله محرَّماً بين العباد، ورحمةً بالمنطقة العربية وأجيالِها الشابّة التي عانت الكثيرَ؛ نتيجة هجرة الأدمغة إلى الغرب، عوضاً عن بقاء أصحابها في أوطانهم، وخدمة شعوبهم، ما يُسهم في نمائها وتطورها المنشود.

ختاماً، لا بد من الإشارة هنا إلى أن لذلك جذوراً تاريخية، فبعد أن كانت مساهمات العرب خصوصاً، والمسلمين عموماً، نقطة ارتكاز للبشرية حتى القرن العاشر الميلادي، دارت الدائرة على العرب والمسلمين، بعد أن أغفلوا دور العلوم في التنمية، وبعد أن انشغلوا بمناكفة بعضهم البعض كما يحدث الآن، عوضاً عن اشتغالهم وانشغالهم بإجراء البحوث وتطوير العلوم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
إيهاب عمرو
أستاذ متخصص في القانون
أستاذ متخصص في القانون
تحميل المزيد