في الفترة من منتصف ٢٠٠٨ إلى منتصف ٢٠١٠ كنت نشطة جداً في التيار العلماني الليبرالي المصري وأتردد على صالون د. نوال السعداوي، وعضوة بجروب لا للحجاب والنقاب، ونعم للعلمانية لا لتجار الدين، ونسويات مستقلات، وأشياء من هذا القبيل.
أكثر ما كان يهمني من نشاطي في تلك الفترة هو الاهتمام بحركة الترجمة من الإنكليزية إلى العربية لفتح آفاق المتلقي العربي على أفكار الليبرالية الكلاسيكية ومنظريها، مثل: جون ستيوارت ميل، وميلتون فريدمان، وأيان راند، وآدم سميث، وهربرت سبنسر، وآخرين، وتزامن ذلك مع محاولات بدائية خجولة لكن مُخلصة للكتابة في اﻷدب والنقد، لكن بمرور الوقت بدأت أنسلخ عن هذه المجموعات، وأضيق بنشطائها ورموزها.
بدأت أرى بأمّ عيني المستوى الثقافي الضحل لهؤلاء اﻷفراد، وتفكك وتشرذم رؤاهم، وكونهم لا يحملون مشروعاً حقيقياً للمجتمع ولا حلولاً ﻷي مشكلة، فماذا بعد العلمانية؟ ماذا بعد تفريغ الصدور من العقيدة؟ لا شيء. الليبرالية عندهم تتلخص في إقناع النساء بخلع الحجاب وارتداء الفساتين القصيرة والمشاعية الجنسية، دون الاهتمام بليبرالية الاقتصاد وتحريره من تسلط الحكومة، ودون الاهتمام بجوانب حياتهن المادية الملموسة من تعليم وعمل ومساواة في الفرص والأجور، ولا بقضايا الزواج والطلاق والحضانة، فهذه القضايا ليست جذابة ولا تلفت الانتباه.
أكثر ما أتذكره من تلك الفترة كان ناشطة سورية اسمها رندة، ولا أذكر لقبها، كتبت تدوينة بعنوان "لماذا أنا ملحدة"، وتدوينة أخرى بعنوان "اليوم العالمي لفض غشاء البكارة"، متجاهلة أن المشاعية الجنسية هي بوابة اضمحلال كل حضارة، وفي الدول الاستهلاكية والنامية تنتهي بالنساء إلى الدعارة، بفعل انغلاق السوق وقلة فرص العمل الشريف.
كان مستواهم الفلسفي ضعيفاً للغاية، وكتاباتهم ضحلة ولا يرقى معظمها لمقال في جريدة صفراء، ورأيت بنفسي كيف يبترون اﻷفكار الاجتماعية والفنية المُستقاة من تجارب الغرب من سياقها الزمني والتاريخي هناك ومحاولة تطبيقها عنوة على مجتمعنا الذي لم يمر بنفس الصراعات اللاهوتية التنويرية والثورات البلشفية والحروب النازية الفاشية والحرب الباردة، وينطلق من منطلقات ثقافية مغايرة تماماً، بحثاً عن بعض الشهرة الرخيصة تحت ادعاء التجديد والتنوير، وركزوا كل اهتمامهم على المرأة وتجاهلوا قضايا الماسكولانية تماماً، ركّزوا على تعرية جسد المرأة وتسليعه للمشاع بدلاً من "سجن الزواج" والحصرية، لدرجة ارتفاع اﻷصوات مطالبة بعودة بيوت البغاء.
هكذا سقط ببطء في عيني المشروع العلماني الليبرالي المصري كاشفاً عن مشروع نرجسي فردي رخيص للشهرة والنجومية الشخصية والأضواء، لكنه فارغ المحتوى لغةً وفكراً، ويعكس فشلاً مخيفاً في حل قضايا المرأة أو المجتمع. وحتى اليوم ما زالت كلمة (مثقف) تصيبني بالغثيان، كبيدق من بيادق السلطة، أو كمتطفل على الإنتلجنتسيا، كما ظهرت العلمانية على حقيقتها في نظري كجزء من تطور المسيحية في أوروبا لكن من المستحيل أن تكون هي التطور الطبيعي للإسلام ﻷسباب تاريخية وثيولوجية بحتة.
كما تفاقم الخلاف والتراشق بيني كليبرتارية وبين الليبراليين اليساريين والشيوعيين الذين كانوا يرفضون تحرير الاقتصاد ويطالبون بدولة اشتراكية سلطوية تشرف على إعالة الجميع لكنها لاسلطوية فيما يتعلق بالجنس وحده، في مقابل جهل الغالبية العظمى بمبادئ الليبرالية الكلاسيكية اﻷميركية، وضم هذا التيار شخصيات مشبوهة وفاشلة ومطرودة من العالم الحقيقي، كاهن كهنوت الفلسفة الرشدية مراد وهبة، الذي يريد استدعاء المعركة التي دارت في القرن السادس الهجري إلى العصر الحالي، بنفس شخوصها وآلياتها، ونساء ضائعات من تنظيم "العائدون من الحجاب"، وجمعية لاكتيويل آي لايك إت، وكُتاب من الدرجة الثالثة خرجوا علينا بكتب ركيكة وغبية ككتاب شريف الشوباشي "تحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، الذي كتبه بركاكة في عجالة بهدف تدمير اللغة العربية الفصحى، و"محاكم التفتيش" لدينا أنور المأخوذ كوبي بيست من جوجل في معركة تنوير مبتذلة ومضحكة تقرن فيها الثقافة بالرقص البلدي، لدرجة أن إبراهيم عيسى منحها مساحة ثابتة في جورناله لتكتب فيه وتردد كلامها الببغائي عن "السلفيين والإخوان"؛ ﻷن كل معلوماتها عن التيار الإسلامي مأخوذة من تصوراتها الساذجة عن الصورة الإعلامية السطحية لحزبي النور والحرية والعدالة في مرحلة ما بعد الثورة.
لا أرى أي مستقبل في المنطقة لما يسمى التيار العلماني الليبرالي المصري، كحركة مجهضة وُلِدت ميتة، وإنما أرى المستقبل لتطوير الخطاب الديني، الإسلامي والمسيحي، وفي تحرير الاقتصاد من بطش الجيش وتسلط الحكومة، وإلا قل علينا السلام.
في الصورة بالترتيب من اليمين لليسار: مراد وهبة، جابر نصار، دينا أنور، خالد منتصر، سعد الدين الهلالي، فاطمة ناعوت.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.