إنه التسارع اللامحدود!، بدايات الألفية الجديدة بزغ توجه جديد في المنظمات الاقتصادية العالمية والمؤسسات التربوية والدينية والتعليمية والأكاديمية والأمنية، يدعو إلى التخلي عن المفهوم التقليدي للقيادة المستند إلى الهرمية والوصاية وسلطة المركز، وتبني أنماط ونماذج قيادية جديدة تشجع العمل الفريقي التعاوني، والمشاركة في صنع القرار، والاهتمام بالمرؤوسين وتعزيز نموهم، كل ذلك في إطار أخلاقي إنساني يتزامن فيه الارتقاء بأداء المنظمة ونوعية إنتاجها والاعتناء بالعامل والاهتمام به.
من هنا لم يكن مستغرباً أن يبدأ نمط جديد في القيادة يطلق عليه"القيادة الخادمة"، يدعو إلى إيلاء الموظفين العناية المتزايدة وتلبية حاجاتهم بوصفها الأولوية الأولى للمنظمة، بطرح نفسه نمطاً قيادياً فعالاً ونظرية معاصرة مشروعة في القيادة المنظمية.
إن القيادة الخادمة تُشجِّع الأفراد على إحداث توازن في حياتهم بين ممارسة القيادة وخدمة الآخرين، فهي تحث القادة على أن أولويتهم الأولى هي خدمة أتباعهم، وفي الوقت نفسه تشجع الأتباع على استثمار الفرص الموقفية لممارسة القيادة، إذ أن الغاية من القيادة الخادمة هي تحسين حياة الأفراد أنفسهم، ثم رفع مُستوى منظماتهم من بعدهم.
تقوم تلك القيادة على فكرة ذكية وهي أن القيادة عندما تقود الأفراد تخدمهم لكي يكونوا أكثر استعداداً لكي يقوموا هم أنفسهم بخدمة الآخرين. وإن مما يكمل تلك الفكرة حقاً، هو أن الأفراد الذين يجب استخدامهم أو تحفيزهم وتشجيعهم لإنجاح القيادة الخادمة يجب أن يكونوا من نمط الأفراد الذين يميلون للخدمة أولاً، أي لديهم الاستعداد عند خدمتهم أن يكونوا خدماً للآخرين.
والقادة في ذلك هم القادة الخادمون الذين يُقدّمون النموذج في أن يخدموا أولاً، ومن ثم يقودوا أو يستطيعوا أن يقودوا لكي يستطيعوا خدمة العاملين ويكونوا مُحَفِّزِين ومُشَجِّعِين على أن يقوم العاملين بخدمة الآخرين.
للوهلة الأولى يبدو الأمر غريباً حينما تقول إن القائد خادم، لكن الحقيقة الموضوعية التي تتجلى من خلال ذلك تجعل هذا المفهوم أكثر تجسيداً لحقيقة القيادة ودورها في تحقيق أهداف المنظمات الإنسانية العاملة، لكن العقول التي لا ترقى إلى هذا المستوى من التفكير حاولت أن تطمس معالم هذا المثل السليم من خلال القول (صغير القوم خادمهم)، وهذا الفهم القاصر لا يتوافق مع حقيقة القيادة وتأكيدها بأن أكثر القادة قُدرة على تحقيق إنجاز الأهداف التي يُرجى بلوغها، هم أكثرهم انسجاماً مع مفهوم (كبير القوم خادمهم) لا صغيرهم.
إن المفهوم العلمي المعاصر لكلمة القائد يُركَّز على أن القيادة تمثل القدرة، أو القابلية التي يستطيع من خلالها الفرد توجيه جهود الآخرين نحو تحقيق الهدف المُراد إنجازه بكفاءة وفعالية.
إن نقاط القوة الرئيسة لنظرية القيادة الخادمة هي مساهمتها في التطوير التنظيمي، حيث يتجه القائد الخادم من نمط القيادة التقليدي الذي يُركز على الهيمنة على المرؤوسين وتلقينهم ما يجب القيام به، إلى نمط القيادة الخادمة حيث يخوّلهم بالعمل ويلهمهم، وهذا الإلهام يؤدي إلى جهود جماعية. وناتج العمل يكون أكثر وأعظم من الجهود الفردية.
كما أن القيادة الخادمة منبع تطوير العاملين؛ فهي لا تُلقي بأهداف المنظمة على عاتق الموظفين، بل على العكس يبذل القادة الجهد والوقت لمساعدة الأتباع على فهم نقاط القوة والضعف الخاصة بهم، القائد الخادم يساعد مرؤوسيه على الوصول لقمة طاقاتهم الجسدية والفكرية، وبذلك يصل المرؤوسون إلى التوازن في حياتهم، وتساعد المنظمات على تطوير رأس المال البشري والمحافظة عليه.
وأخيراً يمكنني القول بأن القيادة الخادمة هي كوكب خدمة المجتمع؛ حيث تُعد خدمة المجتمع من المبادئ الأساسية الأولى للقيادة الخادمة، فالقيادة الخادمة تُساهم في تأسيس ثقافة خدمة الآخرين، سواء داخل المنظمة أو خارجها. وتبرُز أهمية القيادة الخادمة على مستوى المجتمع من كونها تنادي بالفضائل الإنسانية التي تحتاجها المجتمعات المختلفة. فمع ظهور القيادة الخادمة نشهد ازدهار الحركة الاجتماعية، كما سيكون لدى المجتمع قيم مُثلى تصب في الصالح العام ونموذج أكثر قوة من خلال ما تفرزه القيادة الخادمة من مبادئ الإنصاف والعدل. كما أن القيادة الخادمة تقوم بإنجاز المهام التي تلبي الحاجات الإنسانية الأصلية في المجتمع بالنمو التربوي الواعي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.