لغة الضاد، تلك اللغة التي تنطق حباً ومنطقاً وعلماً، لغة الجمال والشعر والموسيقى، لغة الاشتقاق والنحت والتصغير والترخيم، لغة البيان والفصاحة، لغة البحور والمقامات، لغة العباقرة والعلماء أمثال سيبويه والخوارزمي والمتنبي والجاحظ وغيرهم… لغة الفن والفنولوجيا، لغة الرياضيات والإعجاز.
كلها خصائص جعلت منها لغة ثلاثية الأبعاد، فريدة من نوعها، لم تُختر لغةً للقرآن عبثاً، وإنما لِغناها وعبقريتها وروعتها، فخدمت القرآن أحسن خدمة، وأعطاها في المقابل الخلود، لقوله تعالى في سورة يوسف: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، وقوله جل من قائل: "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (سورة فصلت)، وقوله سبحانه: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء) صدق الله العظيم. فأصبحت لغة الدهر من دون منازع.
تعرَّفتُ على مميزاتها منذ أن بدأت قراءة قواعد التجويد، يكفي أن تتعلم مخارج الحروف، وعلم المقامات، والقراءات العشر لتعلم مدى روعتها وعبقريتها.
وصفها العقاد بأنها أداة عالمية من أدوات المنطق الإنساني.
وقال فيها سيدنا عمر بن الخطاب: "تعلَّموا العربية فإنها تُنبت العقل، وتزيد في المروءة".
في المقابل تعد العربية حالياً هي اللغة الرابعة عالمياً، وهي لغة رسمية بمجلس الأمن الدولي في الولايات المتحدة الأميركية، وهي لغة تحمل في طياتها أكثر من 12 مليون كلمة، وهو ما يجعلها أرضاً خصبة لوصف مكنونات النفس البشرية، مقارنةً مع نظيرتها الروسية والإنكليزية والفرنسية، التي تحمل أقل بكثير منها فيما يخص عدد الكلمات والمترادفات.
للأسف هذه اللغة الجميلة تعرف تراجعاً واضحاً داخل مجتمعاتنا العربية، وعدم اهتمام واضح من أبناء جلدتها، ويعزى ذلك لعدة أسباب، من أهمها:
التأخر الذي يعاني منه المجتمع العربي، وانتشار الفقر والجهل والحروب والاستعمار، مما يؤدي إلى تأخر في مؤشر التنمية البشرية.
وكذلك الصراع الحضاري المحتدم، وبالتالي انتشار لغة الأقوى علمياً واقتصادياً وفكرياً على حساب اللغة الأم.
والمستوى المتردِّي للتعليم الحكومي، الذي يُسهم بشكل مباشر في إماتة اللغة العربية، إلى جانب التعليم الخاص الذي يُعطي أهمية للغات الأجنبية الأخرى.
الابتعاد، ونفور أبنائها عنها، وشعورهم بالغربة تجاه نحوِها وقواعدها وإملائها، مما أدَّى إلى انزوائها في بطون الكتب والمراجع التراثية المقصورة على الباحثين والأكاديميين.
انتشار العامية والمحلية والإقليمية، مما يُسهم في انتشار الطائفية والمحدودية.
عدم تعاون المؤسسات والجامعات العربية وغيرها من المراكز العلمية في نشر هذه اللغة، وانتشار التفاخر بين أقطار الشعوب العربية باستخدام لغات أجنبية أخرى.
كل هذه الظروف أسهمت بشكل مباشر في تهميش اللغة العربية وتردِّي وضعيتها، مما سيؤدى إلى عدم وجود هوية وتاريخ وحضارة في المستقبل إذا استمر الوضع على تلك الحالة.
من أجل المحافظة على هذه اللغة الذكية والأنيقة والفاتنة والقوية، التي تشعّ جمالاً، يجب علينا كأمة وشعب يريد المحافظة على هويته، أن يقوم بمجموعة من الإصلاحات، من أهمها:
تحفيظ الطفل العربي القرآن الكريم، الذي يحتوي على ما يفوق 50 ألف كلمة جديرة بتنمية مخه على نحو منقطع النظير، يجعله قادراً على اكتساب لغات أجنبية عند الالتحاق بالمدرسة، وإنشاء كتاتيب في ربوع الوطن العربي؛ كي تكون أرضاً ولّادة للمقرئين والعلماء والأدباء، وقد تأكّد ذلك على مرّ التاريخ؛ حيث إن جيل الكتاب يعد من أفضل وأروع وأعظم الأجيال.
نذكر على سبيل المثال صلاح الدين الأيوبي، الذي أخذ على عاتقه إصلاح شأن الكتاتيب والاهتمام بها على مدى عشرين عاماً، قُبيل انتصاراته التاريخية الباهرة على الصليبيين وتحرير بيت المقدس.
التوعية بمدى أهمية لغة القرآن، التي تجمع بين أكثر من مليار شخص في العالم، وبالتالي فهي لغة التوحيد والقوة.
على أية حال أتمنَّى لهذه اللغة أن تزدهر، سواء داخل الوطن العربي أو خارجه حول العالم، فهي لغة تستحق، ولغة تساعد وتخدم وتبني وتؤثر، ما إن تبدأ في دراستها حتى تأخذك لمعالمها.
حيث ستعجب من أسلوبها، ودقة وصفها، ورقَّة عبارتها، ورشاقة لفظها، وتناسق فكرها، وسمو لغتها، وبلاغة نصها.
فتصبح بالتالي متأنقاً في اختيار مفرداتك، بديعاً في نثرك، وإماماً في نهجك.
أختم بقول الناقد المعروف ياروسلاف ستيتكيفتش، مؤسس مدرسة شيكاغو النقدية: "من يقرأ الشعر الجاهلي واللغة العربية يتوقع أن يكون كل عربي شاعراً".
ولو اتّسع المجال لأوردنا مئات الشهادات لعظماء من الشرق والغرب حول جمال اللغة العربية وفرادتها، ولكنها عجالة قصدها التعبير المتواضع عن محبة اللغة العربية، وعن طرف بسيط من جمالها الذي لا ينفد.
وقول ابن تيمية رحمه الله:
"معلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليم العربية فرضٌ على الكفاية"، وقال أيضاً: "فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون"، وقال: "إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ. فإنّ فهم الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا باللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به، فهو واجب".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.