تستطيع التقاليد الأميركية أن تجد لها مكاناً في كل العالم، وتختلف المجتمعات في درجة قبول تلك التقاليد، وفي سرعة اختراقها، فالعالم لا يتبنّى التقليد الأميركي بشكل كامل. وفي الغالب، تتم الإحالة إلى المصدر، ليس تبرؤاً، ولكن من باب الاعتراف بورود هذا التقليد عبر الأطلسي، وتقبّله بخاطر طيب.
عيد الشكر مناسبة أميركية خالصة، نابعة من جوهر الاختلاف الذي أرساه المهاجرون القدماء الذين عَبَروا الأطلسي، وفي نفوسهم ليس نيّة التغير فقط، ولكن نيّة التمايز الكامل، تعود مورثاته إلى جيناتٍ زراعيةٍ، متعلقة بالحصاد ووفرة الغلة، ومعتقدات دينية عرفانية، تردّ التحية للواهب القدير، من خلال الجلوس الصامت المتأمل، واجتماع أفراد العائلة على طاولة واحدة، يتناولون طعاماً موحداً.
أعطى الرئيس الأميركي الأول، جورج واشنطن، هذا العيد شكله الاجتماعي والسياسي، بتحديده في يوم الخميس الأخير من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، ولا تقبل العقلية الأميركية المركبة على أساس اقتصادي إلا أن تستثمر الحدث بيوم الجمعة الذي يلي خميس الشكر، وتسمّى الجمعة السوداء، وهي عنوانٌ للإنفاق الاستهلاكي على شكل هدايا، تنعش السوق، وتضخ فيه كل "الفراطة" التي فاضت من راتب الشهر الأخير.
شكر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نفسه، لأنه أحدث فرقاً، وهو يظن أن أميركا أصبحت أقوى بفضل رئاسته، وهذا الشكل من الترويج متوقعٌ من رئيسٍ يأتي من خلفية عقارية قوية، ويحرص على أن يضع اسمه على كل مشروع أبنية يُنشئه، ويطمح إلى أن يكون رئيساً لفترتين. أما الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فقد انتهز فرصة لقاء اقتصادي في سنغافورة، ليربت على كتف نائب ترامب، ويقدم له عرضاً بالمساعدة في إخماد حرائق كاليفورنيا، ويعتبر هذا شكراً خفياً على الطريقة الأرثوذكسية المتحفظة، يقدمه بوتين لترامب.
هذان رئيسان يقدمان شكرهما الخاص للرجل نفسه (ترامب)، كلٌّ على طريقته، وهما رئيسان قويان، يستمتعان بحق النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة. ترامب بعقليةٍ قوميةٍ تقترب من الأيديولوجيا، يتطرف بالتفرد والانسحاب من كل تحالفٍ لا يراه مفيداً، مشكّلاً ما يشبه النرجسية السياسية، المتداخلة مع غطرسة مرضية، والتي تجد لها شعبية في الوسط الأبيض المتعلم وذي التعليم المتوسط. وبوتين الذي يعيد أمجاد القيصر بوجودٍ مدعوم بقوة مفرطة، وتفوّق جوي يوجد منه عينة دامية في سورية، ومن المتوقع أن يحافظ عليه بالتشاور مع ترامب نفسه، وقد جنّد لأجله قوة إلكترونية ضمنت نجاحه في انتخابات 2016. أثبت الرئيسان أنهما شريكان "لدودان"، يتفهّم كل منهما الآخر، ويبقيان على الرغم من اللقاءات القليلة التي جمعتهما على التوازن الذي يحتفظ لكل طرفٍ بحقوق كثيرة، تشبع رغبته الانتخابية والشخصية، ولا يعني ذلك أن العالم أصبح أكثر أمناً بوجود هذا التفاهم الخفي، وعيد الشكر لن يمر من دون بقع ملتهبة، تخلّف ضحايا، نتيجة هذا التفاهم على وجه الخصوص.
يستحق ترامب الشكر الذي قدّمه له بوتين، وقد مهّد له طريقاً اقتصادياً سالكاً نحو إيران، بعد أن فشل الكيان الذي تريد دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا إنشاءه، لمواصلة التجارة مع إيران، والهروب من العقوبات القاسية. أما الرئيس الإيراني فعليه الانكفاء للداخل، مع التفاقم الكبير لمشكلاته الاقتصادية التي سيحمل المرشد الأعلى تبعاتها، وإيران ميدانٌ مثاليٌّ لعرض التفاهم الحقيقي بين ترامب وبوتين اللذين يبدوان كشريكي مائدة عيد الشكر. لا يُبدي بوتين إلا اعتراضاً إعلامياً على عقوبات ترامب لإيران، فيما يُمعن ترامب في فرض مزيدٍ منها. وتبدو روسيا ملاذاً أخيراً ومفضلاً لآيات الله. وعليهم، في الوقت نفسه، توجيه الشكر الخاص للقيصر الجديد الذي يمكن أن يؤمِّن استمرارية لهذا الحكم، كما أمن استمرارية حكم بشار الأسد في دمشق، وهذا من المتوقع أنه يرفع يديه عالياً، وبشكل يومي، متوجهاً بالشكر لبوتين وطيرانه المتفوق الذي أمن بقاءه في قصر المهاجرين. أما نحن، فيمكننا تأجيل الشكر، والاكتفاء بوجبة الديك الرومي القاسي، وسيئ الهضم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.