يتشوّه مفهوم القوة والسلطة لدى العديد من الناس، فيظنون أنها تعني الحكم بالسوط والنار، وذلك بسبب انتشار الأنظمة الدكتاتورية عبر الزمان وإلى يومنا هذا. فكانت هناك على سبيل المثال أنظمة طبقية كالفرعونية التي قسمت الناس إلى خمس طبقات، أعلاها الحكّام وآخرها العبيد، وأخرى استبدادية كالرومانية التي ابتزت أموال شعوبها لرفاهية حكامها دون غيرهم. وفي العصر الحديث، لا تكاد تخلو دولة في المنطقة العربية -على سبيل المثال- من هذا النوع من الأنظمة، والتي نجدها تشترك جميعها في تأليه الحاكم واستعباد الشعب ومنعه من حرية التعبير وانتقاده للسلطة.
ولكن نجد تلك الدول في نفس الوقت وقد أعياها الضعف في تحقيق التنمية الداخلية وفي فرض هيمنتها على الآخر. كما فشلت الفرعونية في التوسّع، وأصبحت الحضارة الرومانية دون النامية لاعتمادها على الاستهلاك ما أدى إلى فقرها علمياً وتقنياً. ومعظم دول المنطقة العربية نجدها مفككة، وفاشلة بسبب هروب العقول منها، وقمعها للحريات واضطهادها للعلماء، ما أدى إلى انتشار الفساد والفقر والعنصرية فيها وهدر لمواردها من سوء توزيع وسرقة واستغلال. إضافة إلى تبعيتها للدول الأقوى منها والتي تعمل باستمرار على تحديد اقتصادها وتعليمها ودوائها وحتى مصيرها!
وعلى صعيد آخر نجد أنظمة دول العالم المتقدمة مثل أميركا، اليابان، وألمانيا تملك قوة حقيقية قادرة من خلالها على بسط سلطتها ونفوذها. فنجدها تمتلك القدرة على التحكم في مصيرها وحتى في مصير الدول والشعوب الأخرى. ومن المثير في هذه الأنظمة اتباعها لنظام حكم مبني على أسس ومعايير مشابهة لتلك التي جاء بها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
فما هو المعنى الحقيقي للقوة والسلطة؟ وما تطبيقاتها في السيرة النبوية الشريفة؟ هذه المقالة تحاول الإجابة على ذلك:
بداية، لأي أمة تريد النهوض والتمسك بزمام أمورها أن تملك قائداً. والسبب، بحسب نظرية أبراهام ماسلو (1943)، هو حاجتها لمن يعينها على البقاء ولدرء الاعتداء عنها؛ مثل توفير الغذاء والأمن والأمان، إضافة إلى مساعدتها في إيجاد معنى لوجودها يحفزها على العمل والإنتاج والطاعة. ولا يعني ذلك أن القائد سيكون قادراً على تحقيق ذلك لوحده، وإنما هو أيضاً، سيكون بحاجة إلى مساعدة الآخر والتعاون معه لتحقيق ذلك. وهذا سبب تمايز البشر؛ ليتعاونوا فيما بينهم لما فيه الخير لهم: " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)" – المائدة.
ثانياً، مع تعدد القادة المميزين عبر الزمان وفي الشرق والغرب من أمثال: توماس جيفرسون والمهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وغيرهم، قمنا باختيار سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كنموذج للقوة والسلطة لعدة أسباب، منها:
- قدرته على إيجاد قوة عظمى من العدم، والتي تمكنت من بسط نفوذها في العالم لعدة قرون. فالرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أعظم قائد لأعظم أمة عرفتها البشرية وبشهادة العديد من الأعلام ومن غير المسلمين، مثل برنارد شو و ج. ﻫ . دنيسون.
- الحثّ على اتباع سنته: " لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ" – الأحزاب: 21 فالنبي عليه الصلاة والسلام أفضل قدوة في كل شيء؛ من خلق وأسلوب حياة وتعامل مع الناس وقيادة وغيرها. وهنا سنركز على الجانب القيادي له وهو أهم جانب.
- دحض افتراء انتشار الإسلام بالسيف، وبأنه ضعيف لا يواكب العصرية ولا النهضة الفكرية، والتي انتشرت في كتب المستشرقين أمثال كارل بروكلمان، وليوليوس فلهاوزن، وتوبي هاف، وغيرهم.
اختيار القائد
ثالثاً، على القائد الناجح التمتّع بصفات قيادية محددة، وبالرغم من تضارب النظريات حول الصفات القيادية المطلوبة بين أنها صفات موروثة فقط ولا يمكن اكتسابها مثل (نظرية الرجل العظيم – توماس كارليل)، وأخرى أفادت بإمكانية ذلك كـ (نظرية السمات – رايموند كاتل) وغيرها، إلا أن جميعها افتقرت للإثبات التطبيقي. ولكن قبل ذلك بقرون ظهر نموذج قيادي ناجح واقعي ومتكامل وقادر حتى على إلهام الآخرين، وهي شخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وفيما يلي أبرز سمات شخصيته:
- قوة الشخصية: وتعني معرفة الصح والخطأ، والشجاعة الأخلاقية لفعل كل ما هو صواب وتجنّب كل ما هو خاطئ، وبغض النظر عن المزايا الناتجة عن القيام بالفعل اللا أخلاقي. ونجد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد رفض عروض قريش عن طريق عتبة بن ربيعة للتخلّي عن الدعوة في بدايتها، من مال وعز وملك ونساء وغيره.
- التحلّي بالأخلاق الحسنة: وذلك حتى يتمكّن من التأثير على الآخرين، وهذا ما أشار إليه ستيفن كوفي، في كتابه الأفضل مبيعاً حول العالم: "العادات السبع لأكثر الناس كفاءة"، فالشخص ذو الخلق الحسن هو الذي يفضل الناس التعامل معه على أي أحد آخر، فهم يكرهون الكاذب والمخادع ويقطعون علاقتهم معه، ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أفضل الناس خلقاً؛ لقوله تعالى: "وَإنَّكَ لعَلى خُلقٍ عَظيم" (القلم: 4). كما عُرف -عليه الصلاة والسلام- بالصدق والأمانة حتى قبل البعثة، فقد قبلت الأطراف المتنازعة من قريش تحكيمه في وضع الحجر الأسود، بقولها في الإشارة إليه عند وصوله إلى الكعبة: "هذا الأمين، رضينا به حكماً".
- المعرفة والحكمة: وذلك ليتمكن من توجيه الناس لما فيه الخير لهم واتخاذ القرارات السليمة في وقتها ودون تردد، فبحسب صاحب أفضل الكتب مبيعاً حول العالم "جون أدير"، على القيادي الملهِم التفوق بعلمه وحكمته على غيره. وعلى الرغم من أميّة الرسول الكريم، فإن الله -تعالى- أنزل عليه الحكمة والعلم الغزير بما يتعلّق بقيادة الأمة، وذلك عن طريق الوحي، سيدنا جبريل عليه السلام، قال تعالى: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى" (النجم: 2 -5).
وقد حاولت اليهود اختبار علم الرسول (صلى الله عليه وسلم) أكثر من مرة، مثل سؤاله عن عقوبة الزاني المحصن، وإشارتهم على قريش بسؤاله عن أهل الكهف وذي القرنين والروح.
فالرسول كان معلماً وبشيراً ونذيراً، وبيّن أن العلماء ورثة الأنبياء، وأهمية توليهم لمناصب الحكم؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة"، ولذلك يشترط في الأئمة تفوقهم في الدين، وأن يكونوا من العلماء في حكم الشرع؛ ليتمكنوا من توظيف خبرتهم وحكمتهم في تسيير أمور الناس لما فيه الخير لهم، وإن تخلّفوا على ذلك فلا شرعية لهم؛ لما سينتج عن ذلك من ظلم على العباد، وتشتت شملهم، وانهيار أمتهم.
- طلب المشورة والعمل بها: على القائد استشارة الآخرين، واتخاذ القرار الذي تم الإجماع عليه، وهو من الأهمية البالغة لما له من أثر في إشعارهم بقيمتهم واحترامهم وكسب ثقتهم وإخلاصهم، إضافة إلى إتاحة الفرصة للاستماع إلى الأفكار الجديدة وتشجيع المبادرة والإبداع. قال تعالى: "وَالَّذِينَ استجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" (الشورى: 38)، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يستشير صحابته في أكثر من موضع، وفي ذلك قال أبو هريرة: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حتى قبل وضع الولاة والأمراء وقادة الجيش كان -عليه الصلاة والسلام- يستشير المسلمين في ذلك، كما استشار أصحابه في اختيار مكان غزوة بدر بقوله: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، وكان أن أشاروا عليه أيضاً في غزوة أُحُد بقتال المشركين بدلاً من التحصّن داخل المدينة، وعمل بنصيحة الصحابي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب. كما كان -عليه الصلاة والسلام- يأخذ برأي زوجاته أمهات المؤمنين، فمثلاً، أشارت عليه زوجته أم سلمة بالنحر والتحلل من الإحرام في صلح الحديبية أمام المسلمين ليقتدوا به.
- التواجد الدائم وعن قرب: لن يكون القائد ملهماً وقادراً على تحفيز الآخرين إن لم يوجد معهم في كل الأحوال لحل مشكلاتهم ولمشاركتهم المهام والمخاطر، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعقد مختلف المجالس في مسجده ومنزله، وكان يحرص على مشاركة المسلمين الغزوات.
- الرحمة: من أبرز صفات القائد القدرة على تعليم الآخر وهذا لن يكون فعالاً دون رحمة. فبحسب جيمس فانفليت، الكاتب في مجال علم النفس والإدارة، على القائد التحلي بالقدرة على ضبط النفس وعدم الانفعال، وإلا فإنه سيحوّل أتباعه إلى أعداء بكل سهولة. وتتجلى مظاهر الرحمة في السيرة النبوية الشريفة في أكثر من جانب، منها رحمته لمن يخطئ. مثل عفوه على الصحابة عندما خالفوا أمره في غزوة أحد، وذلك بعد أن
أوصاه الله تعالى بذلك: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" – عمران: 159
- الحماس والتفاؤل: إن لم يساعد القائد الآخرين على استشعار رؤية أفضل للمستقبل، فلن يتمكّن من تحفيزهم والتأثير عليهم، وهذا ما كان يفعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) بوصف ثواب الجنة التي أوجدها الله تعالى للمتقين، وبحثِّ المسلمين على التنافس فيما بينهم لنيل أعلى درجاتها، وكان قادراً على إشعارهم بالنصر والأمان حتى في أحلك الظروف، تماماً كما في قوله لأبي بكر، عندما اختبأ معه في الغار: "لا تحزن إن الله معنا". والصفح صفة لا يستطيع لأحد من امتلاكها بسهولة؛ فهي تتطلب الإنسانية من الشخص ليتمكّن من تفهّم دوافع الآخر وتقدير ظروفه واحتياجاته، قال تعالى: " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" – فصّلت. وهذا ما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قام حاطب بن أبي بلتعة بإفشاء سر غزوه لأهل مكة من خلال كتاب أرسله مع امرأة من المشركين، وعندما واجهه الرسول أخبره أن السبب هو خوفه على أهله، فصدّقه وأطلقه ومنع عمر بن الخطاب من قتله والآخرين من همزه ولمزه.
بناء التحالفات
رابعاً، يقول جيمس فانفليت صاحب كتاب (القوة المطلقة مع الناس) أنه لا يكفي لتحقيق القوة والسلطة امتلاك الصفات القيادية، إذ ينبغي التعاون مع الآخر للنجاح، وتجنب افتعال الأزمات معه، وذلك من أجل درء الاعتداءات الداخلية والخارجية ولتحقيق الأمن والسلام.
والسيرة النبوية الشريفة حافلة بمختلف التحالفات التي أنشأها الرسول عليه الصلاة والسلام والقبائل من أجل حماية الدولة الإسلامية وزيادة رقعة سلطتها، ولدرء الاعتداءات عليها. وذلك من خلال المعاهدات التي وقعها معهم. وفيما يلي نبذة عن تاريخ التحالفات في السيرة الشريفة:
- أول تحالف بدأه الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان في بداية الدعوة الإسلامية بمكة المكرمة، وذلك عندما دعا الله تعالى بنصرة الدين الإسلام بإسلام أحد العمرين: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل، لما يتمتع كلاهما من قوة، وذلك عندما اشتدت عليه الدعوة وخشي من اندثارها، فكان أن استجاب الله وأسلم عمر بن الخطاب، حينها بدأ الإسلام يظهر للعلن وبدأت تثبت جذوره.
- بدأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدعوة رؤساء وقادة قريش (الأشخاص المحوريين) لاختصار الجهد والوقت في الدعوة الإسلامية من أمثال أبي جهل وأبي سفيان وأمية بن خلف، ولما لهم من تأثير على بقية الأفراد. وذلك بعد أن أوصاه الله تعالى بذلك؛ أي بدعوة عشيرته الأقربين. إذ لا يستطيع القائد السيطرة على كل الناس، ولكن إن تمكن من التأثير على الأشخاص المحوريين، فإنه سيتمكّن من ذلك.
- معاهدات الصلح والسلام: عقد الرسول أول معاهدة مع يهود المدينة (بني عوف) بمجرد وصوله إليها لسببين: بيان رغبته في مسالمتهم، ولدرء الاعتداء عن المسلمين. وكان لهذا التعايش السلمي أثره على التبادل التجاري معهم والتواصل بينهم من خلال مختلف المجالس لاستمالتهم إلى دين الإسلام.
وفي صلح الحديبية تمكّن الرسول من تحقيق السلام لأمته لعقد من الزمان، تمكّن من خلالها من العودة إلى مكة لأداء الشعائر الدينية، ودعوة كافة القبائل العربية للتحالف مع الإسلام دون خوف ولا وجل.
- الزواج: لجأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى الزواج كوسيلة أخرى لاستمالة القبائل. مثل زواجه من صفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. فقد كانتا من السبي، فأعتقهما الرسول وتزوجهما لتوثيق علاقته بالقبائل وتكريماً لهما.
نيل الطاعة
خامساً، "أعط الإنسان رغيف خبزه وكرامته وخذ منه كل شيء"
لا يستطيع القائد أن ينال الطاعة بالأمر والجلد! وإنما سيعمل ذلك على إيجاد الفرقة بين الأفراد وسيعزز لديهم نوزاع التمرد والثورة. وهذا ما سجله التاريخ من ثورات حول العالم، كالفرنسية والكوبية والإيرانية وغيرها.
فنيل الطاعة عملية تتطلب فهم الآخر واحترامه وتقديره وتلبية احتياجاته الفيسيولوجية التي سبق توضيحها. فلكل إنسان حقوق على الحاكم عليه تلبيتها ليمنحه الطاعة. وبحسب نظريات المفكّر جاك جاك روسو، وتوماس جيفرسون التي قامت عليها ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، يجب توفير الحرية والمساواة والأمن وسيادة القانون. والإسلام بيّن أن هذه الحقوق ضرورات ليتمكّن الإنسان من القيام بالخلافة. فبدأ بتحقيق حرية الجسد بتجفيف روافد نظام الرق الذي كان سائداً في الجاهلية، حتى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن تسميتهم بالعبيد بقوله الشريف: (لا يقول أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي).
وليس ذلك فحسب، وإنما تمكّن الإسلام من تحقيق الحرية الفكرية، وذلك من خلال دعوة الناس إلى التفكّر والتأمل: " قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)" – يونس. كما لم يفرض الرسول الإسلام بالإكراه، فالله بعثه ليكون مبشراً ونذيراً: " وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)" – النور.
ثم على القائد عدم الانفراد باتخاذ ما يمس أمته من أحكام وقرارات دون استشارتهم والأخذ برأيهم. لما فيه من إشعار الآخر بالاحترام والتقدير ولمنع الظلم والاستبداد ولتحقيق أكبر منفعة للعامة والبلاد. وكان الرسول أكثر الناس مشورة لأصحابه كما سبق وتم توضيحه.
ولا يتم تحقيق السلطة دون تحقيق العدل بين الناس؛ وذلك من خلال معاملتهم سواسية دون تفضيل فئة على أخرى. فالإسلام أمر بتقسيم الثروات بينهم بالعدل ومنع بيع مصادر الماء والنار. كما نفّر الظلم بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، طوقه إلى سبعين أرضين). وقد شمل الله تعالى أشكال العدل بقوله جلّ وعلا: " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)" – الأنعام.
إنشاء جيش من المخلصين
سادساً، "لا يستمع العقل حتى يستمع القلب"
بهذا المفتاح يتمكّن أي قائد من استمالة الناس ونيل ثقتهم وإخلاصهم. وبحسب فانفليت، فإنه ينبغي على القائد معرفة ما يريده الآخرون وما يحركهم ليتمكّن من نيل إخلاصهم. لذلك على القائد العمل على تحقيق المصلحة الشخصية للتابعين له قبل مصلحته، ويشترك الجميع بالرغبة في نيل الكرامة والعدالة والمساواة.
والإسلام أول من رفع من شأن حقوق الإنسان والمرأة على وجه التحديد، من خلال تحريم الربا والبغاء ووأد البنات. كما ألغى العنصرية والتفاخر بالأنساب بقوله الشريف: (لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى). ولذلك نجد أن الفرقة الأولى التي لحقت بركب الإسلام كانت من الملونين والفقراء والنساء.
كما في التواصل الدائم مع الأمة وتحفيزها وتذكيرها بأهمية الإخلاص والثواب، الأثر في المحافظة على إخلاصهم وولائهم. وكان الرسول عليه والسلام يحرص على التخاطب الدائم مع المسلمين وبكلمات بسيطة بعيدة عن التعقيد تلمس القلوب قبل العقول. مثل: (فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف).
خلاصة
وأخيراً، بحسب نظرية ابن خلدون للدولة، فإن هلاكها يأتي من الدعة والترف والبعد عن اتباع الحق. فمتى نزح الاهتمام بالإنسان إلى البنيان والعمران وإلى الرفاهية على حساب الرغيف والكرامة، سيبدأ الضعف ينخر بالدولة وستسقط بأيدي المرتزقة! وفي كل الحضارات التي اندثرت والأمم التي أبادها الله كانت بسبب ظلم وجور حكامها واستعبادهم لشعوبها؛ مثل مدين وثمود وفرعون وغيرهم. وكما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
فالقوة والسلطة ليست تلك التي تجبر الناس على الرضوخ للظلم، وإنما التي تسهر على خدمتهم فـ (خادم القوم سيدهم). والإسلام الوحيد الذي رفع أمته إلى مراكز القيادة العالمية وأمدها بالقوة لفتح أقاصي الأرض، وذلك لأنه جعل الناس جميعاً متساوين تحت راية التوحيد وسيادة القانون المستمد من الشريعة الإسلامية، وبالتالي حقق لهم الرفاهية والفوز في الدنيا والآخرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.