وأنا راكبة الميكروباص في طريقي إلى العمل، صباح اليوم، حيث الازدحام المروري الذي لا يُطاق أو يحتمل، لولا استماعي لأجزاء مجوَّدة من سورة آلِ عمران بصوت الشيخ المنشاوي -رحمه الله- وهو يجلجل في الميكروباص، فقد نشأت على سماع أروع الأصوات بالترتيل والتجويد بصحبة أبي -رحمه الله- ووسط هذا الاستمتاع، مع احتمال الزحام وبطء سير الميكروباص، وبعدما قطعنا أكثر من نصف المسافة إذ بأحد الركاب يطلب من السائق أن يشغّل أي محطة أخبار: "علشان نشوف الدنيا حصل فيها إيه"، على حد قوله، فيردُّ أحد الركاب نيابةً عن السائق مستنكراً "يطفي القرآن ويشغّل الأخبار؟!"
ويتطوع آخر قائلاً "مسلمين إيه دول يا رب؟!"
وقد حسمها السائق بقوله باستغراب "قال أطفِّي القرآن وأشغَّل الأخبار قال!"
تأملتُ الموقفَ في سكوت، وقطع تفكيري فيما حدث حدث اتصال اثنيين من أهلي، واحدٌ يلي الآخر للاطمئنان عليَّ، إذ جاءتهم في رسالة قصيرة على التليفون المحمول أنَّ ثمة قنابل انفجرت في مترو الأنفاق منذ نصف ساعة تقريباً، ففطِنتُ لتوّي أنَّ مَن طلب تشغيل الأخبار قد استقبل الرسالة ذاتها!
وعندها تَبادَرَت إلى ذهني بعض الأسئلة:
ألم يعلم مَن تعصَّب لمنع إيقاف القرآن وتشغيل الأخبار أنه لا ضرر في هذا، ولا إثم على مَن يفعل ذلك؟ وأن الضرر يقع فقط عندما نغيب عن الواقع ونصير كأجهزة الكمبيوتر التي تردد من دون فهم أو تفكير (فأغلب الركاب كانوا منخرطين في أحاديث جانبية، من بينهم السائق واثنان ممن تطوعوا بالرد)، وهذا يتنافى تماماً مع الإسلام، فهو قائم على التفكير والتفكر.
وسكوتي على ما سمعت ورأيت، ليس فقط لكوني من بنات حواء التي تلتزم عدم الانخراط في أحاديث الركاب، والاكتفاء بالسماع، فلو كنتُ رجلاً لسكتُّ أيضاً، لأنه كيف لي أن أخاطر بالدخول في نقاش وجدال مع أفراد تأسَّست عقلياتُهم على فهم الدين بهذه الطريقة، التي تقتصر على سماع القرآن من دون تناوله كمنهج حياة.
كيف لي تصور حلِّ مشكلة عويصة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كهذه بمفردي؟!
القاهرة، 24 يونيو/حزيران 2014
******
الدرهم والدينار
سَألَ عمرُ بن الخطّاب عن رجلٍ ما إذا كان أحدُ الحاضرين يعرفه، فقام رجلٌ وقال: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لعلَّكَ جاره، فالجارُ أعلمُ النّاس بأخلاقِ جيرانه، فقال الرّجلُ: لا، فقال عمر: لعلّكَ صاحبته في سَفرٍ، فالأسفار كاشفة للطباع، فقال الرّجلُ: لا، فقال عمر: لعلّكَ تاجرتَ معه، فعاملته بالدّرهمِ والدّينارِ، فالدّرهمُ والدّينار يكشفان معادنَ الرّجال، فقال الرّجلُ: لا، فقال عمر: لعلّك رأيته في المسجدِ يهزُّ رأسَه قائماً وقاعداً؟ فقال الرّجلُ: أجل، فقال عمر: اجلسْ، فإنّكَ لا تعرفه.
وبذلك وضع لنا عمر رضي الله عنه ثلاثة معايير يكفي أحدها لمعرفة الشخص، فحلو الكلام أو الأفعال في أوقات الرخاء كلها لا تعدو كونها انطباعاً ظاهريّاً عن الشخص، لكن المعرفة الحقيقية لا تتأتى إلا بالجوار، فالجار أعلم الناس بأخلاق جيرانه، أو الصحبة في السفر، فالسفر تُعرف به مكارم الأخلاق، أو المعاملات المادية، التي تنبئ عن سماحة المرء أو جشعه، وتبيّن مدى أمانته أو غدره.
ولذلك أرى أن التسرّع في الحكم على الشخص بناءً على ظاهر قوله أو فعله، وبعيداً عن أحد هذه المعايير قد يوهم الإنسان بعكس ما تتضمنه الحقيقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.