أتجول قليلاً كعادتي بين صفحات التواصل الاجتماعي هُنا وهُناك..
أقرأ المنشورات، وأمرُّ سريعاً على التعليقات لأرى ما في عقول الناس، وجديد الأخبار، والأفكار الجديدة التي تنتشر بسرعة البرق، السيئ منها والجيد.
ألاحظ أحياناً ما يثير إعجابي فأوافقه الرأي، وأحياناً أخرى أرى ما يثير حنقي ويُغضبني فألجأ لمقالاتي هذه، كما أفعل الآن تماماً.
أما ما يثير غضبي فهو صيحةٌ جديدة من صيحات السخرية، الاستهزاء، أو السب أحياناً.
يقول الشاب العربي فيها للآخر بنبرة هجاء (يا فلاح).
وكأنه هكذا أهانه، بإطلاق لقب "الفلاح" عليه!
ربما لأننا نسينا أصلنا الذي كان أكثر فخراً مما نحن عليه اليوم، نسينا كوننا في الأصل (فلاحين).
وأن الفلاح هو جدي وجدك، ورغم انتقال البعض منا للمدن، فإننا كنا في الأصل فلاحين.
قامت مجتمعاتنا هذه على عَرَق الفلاحين، وزراعتهم ورعيهم وتجارتهم.
وبدأت المدن من تجارة الفلاحين.. وكبرت حتى أصبحت القرى تحاول التمدين.
لكننا في الأصل فلاحون.
ولم تكن هذه يوماً إهانةً قبل يومنا هذا الذي تنطق فيه أفواهنا بمحض هراء.
فالفلاح في اللغة هو المزارع
وفي الموسوعة الحرة أو (ويكيبيديا) كُتِب نصاً: "فلاح، مصطلح يشير إلى المزارع أو العامل الزراعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُعتقد أن الفلاحين هم أقرب أسلاف المصريين القدماء،
ونظراً لاستمرارية المعتقدات وأسلوب الحياة فقد وصف فلاحو مصر بأنهم هم (المصريون الحقيقيون)".
لذلك كونك تقيمُ في مدينةٍ لا يجعل منكَ شخصاً أفضل من (الفلاح).
فقد كان الفلاح في زمنه بطلاً يُمثل أسمى معاني الكفاح، والشرف.
رغم وجود بعض المُعتقدات القديمة الغريبة التي سببها جهله في وقتٍ لم يكن العلم فيه مهماً بالنسبة لهم، إلا أنه كان رغم جهله عالماً بدروس الدنيا كلها.
واليوم نحن هنا رغم علمنا، وشهاداتنا التي تُعلق على الجدران.. ما زلنا جهلةً في الأصل ننشر بيننا كل ما يُزعزع مُجتمعاتنا، ونربي أجيالاً هشة لم نر مثلها ينشأ على يد فلاح.
ثم نسخر منه!
وكأننا مثلاً لسنا فرعاً من شجرة جذورها الفلاح.
وكأننا لم نترعرع في تربة القُرى الخصبة قبل أن نفرّ إلى المدن!
لأننا -رغم علمنا- جَهَلة.
ولا يعني حديثي هذا أنني أكره المدينة؛ لأنني أعيش فيها براحة، وأحبها!
لكنني أعرف وأنا أستنشق هواءَها أن جدي كان فلاحاً شريفاً، وبطلاً أفخرُ به.
وأن أولئك الساخرين من (الفلاح)، المعتقدين أنه أداة للاستهزاء هم في الأصل يسخرون من أصلهم الذي يحاولون الانسلاخ منهُ بجهل.
وتظهر محاولاتهم هذه أحياناً في دفاع البعض عن أنفسهم من خلال نفي صفة (الفلاح) عنهم.
وظهور نبرة الانزعاج في قولهم: "أنا لستُ فلاحاً".
وكأنه ينفي عن نفسه التهمة!
لذلك؛ تُعتبر صيحة (يا فلاح) الجديدة من أوضح الأدلة على جهلنا وسطحيتنا، أو فلنقل (بعضنا)، ولا سيما الشباب من جيلنا، ممن نسوا أين كُنا، وأين أصبحنا.. ولا يعلمون حتى أين سنُصبِح مع كل هذا الكَم من (اللا شيء) المتناثر في الأرجاء بكثرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.