لو قرأت قصة حياة إبراهام لينكولن، وهو واحد من أهم الآباء المؤسسيين للولايات المتحدة، أو شاهدت فيلم "Lincoln 2012" الذي يحكي عن كفاحه من أجل إعطاء السود الحرية من العبودية- لعرفت أن هذا الرئيس الجمهوري كافح من أجل تمرير هذا القانون، على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها له أعضاء الحزب الديمقراطي، الذين لم يكونوا، لحسن الحظ، غالبية أعضاء الكونغرس في هذا الوقت، في أثناء تمرير إعلان تحرير العبيد Emancipation Proclamation عام 1863.
وحتى بعد اغتيال لينكولن عام 1865، وتحوّله إلى أسطورة في عيون الكثيرين، استطاع السود الحصول على حق التصويت في الانتخابات الأميركية بداية من عام 1870، والتي كانت للمفارقة، مقتصرة على الناخبين الذكور فقط! ليتحول الحزب الجمهوري منذ هذا الوقت إلى حزب المدافعين عن الحقوق والحريات، ولينجح أن يكون بلا منازع، حزب الأقليات، وبالأخص حزب السود.
ولكي تتخيل حجم التأثير الذي أحدثه الحزب الجمهوري منذ ذلك الوقت، وحجم ملايين السود الذين كانت تتعدى أعدادهم في ذلك الوقت 12% من سكان أميركا، لك أن تعرف أنه وبعد أن كان إبراهام لينكولن الرئيسَ الجمهوريَّ الأول في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، استحوذ الجمهوريون بعد ذلك على منصب الرئيس أكثر من 20 سنة قادمة، وليتحول هذا الحزب الوليد، الذي أنشئ فقط عام 1854، إلي أكبر حزب في الولايات المتحدة الأميركية إلى حد كبير.
لكن، ما سرُّ هذا التحول؟ وما الذي تغير ليتحول غالبية الأفارقة الأميركيين إلى التصويت للحزب الديمقراطي، كما يحدث الآن (8% فقط من الأمريكيين السود اختاروا المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وأقل من 9% منهم اختاروا الجمهوريين في انتخابات الكونغرس الأخيرة 2018)؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من أن نعِي نضال السود في الولايات المتحدة، والذي لم ينتهِ بسهولة، بمجرد تحريرهم من العبودية، فغالبية الأفارقة الأميركيين كانوا يوجدون بالأساس في الولايات الجنوبية، وبمجرد تمرير إعلان التحرير، طبقت الولايات الجنوبية قرار جيم كرو عام 1870، والذي كان ينص على تمييز أماكن محددة للسود، يمكنهم فقط أن يمشوا ويأكلوا ويناموا فيها، وحتى في تلك الأماكن المتاحة لهم، كان على السود الانتظار حتى ينتهي البيض من معاملتهم.
ولكي يتجنب غالبية الأفارقة الأميركيين العنف في ذلك الوقت، امتثل معظمهم لهذا القرار، وبدأوا منذ ذلك الوقت بناء مدارسهم، وكنائسهم. وبسبب هذه الأوضاع، بدأت هجرة الأفارقة الأميركيين إلى الولايات الشمالية. لكن، أدى تدفق السود السريعُ في هذه المناطق، وكراهية البيض الشماليين هذا التغيّر العرقي، إلى تفاقم أحداث شغب وعنف، مثل أحداث الصيف الأحمر سنة 1919، التي وقعت في أكثر من 30 مدينة أميركية، وسقط بسببها مئات الوفيات وآلاف الضحايا، ولتستمر بعدها معاناة السود، ليس في الجنوب فحسب، بل بالشمال أيضاً.
ومن أبرز وقائع نضال السود حادثة الطفل (14 عاماً)، إيميلت تيل، عام 1955، في مدينة شيكاغو الشمالية، والذي اتُّهم بالتحرش بامرأة بيضاء، ليتعرض بعدها للضرب المبرح من الرجال البيض، لدرجة أنهم فقعوا إحدى عينيه، ثم أجهزوا عليه برصاصة في رأسه، لتصر والدته على جنازة شعبية لنعش ابنها المفتوح، ويحتشد حينها المجتمع الأسود في موكب مهيب.
كل هذا جعل محاكمة قاتلي الطفل إيميلت تتحول في الأساس إلى معركة استمرار تفوُّق العرق الأبيض. ولهذا، لا تتعجب لو عرفت أن المحكمة حكمت ببراءة المتهمين! وكيف لا، وهيئة المحلفين اختيرت من البيض في الأساس.
ليشتعل نضال السود في أرجاء الولايات المتحدة كافة، ويتمردوا على قرارات التمييز البيض العنصرية، مثل اعتقال روزا باركس عام 1955، بعد رفضها التخلي عن مقعدها لأبيض في حافلة مونتغمري، مخالِفةً لقوانين مدينة ألاباما الجنوبية، والتي قالت بعدها: "إن صورة وجه إيميلت المشوهة في النعش كانت في ذهنها".
وتظهر في السيتنيات أساطير النضال الإفريقي بالولايات الأميركية، مثل مالكوم إكس، الذي اغتيل عام 1965، ومارتن لوثر كينغ صاحب خطبة "أنا عندي حلم" الشهيرة والذي اغتيل بعدها عام 1968، وعالمياً أيضاً مثل نيلسون مانديلا واعتقاله من أجل حرية السود عام 1962!
كل هذا دفع الرئيس الديمقراطي جون كينيدي إلى العمل من أجل بيئة أفضل للسود في الولايات الأميركية، واستمر هذا النجاح على الرغم من اغتياله في عام 1963، بخليفته الديمقراطي أيضاً ليندون جونسون بإصداره قانون الحماية المدنية عام 1964، الذي نص على حظر أي تمييز في الأماكن العامة، أو العمل.
وبصورة عامة، بدأ الحزب الديمقراطي اتخاذ قرارات جريئة، جعلته شيئاً فشيئاً حزب الأقليات، وجعلته الحزب المفضل للأميركيين السود بدلاً من الحزب الجمهوري، بداية من اختياره أول أميركي من أصل إفريقي، آرثر ويرجز ميتشل، ليكون مرشحه لانتخابات مجلس النواب عام 1934 عن ولايه إلينوي، ثم تعيينه أول سفير للولايات المتحدة من أصول إفريقية إدوارد دادلي عام 1949، في عهد الرئيس الديمقراطي هاري ترومان، ثم تعيينه كارل ستوكس عام 1967 ليكون أول عمدة أميركي من أصول إفريقية لمدينة كبيرة، وهي مدينة كليفلاند في ولاية أوهايو (فعلياً، أول عمدة إفريقي أميركي على الإطلاق هو روبرت هنري، الذي عيَّنه الجمهوريون بمدينة صغيرة في الولاية نفسها: أوهايو، قبلها بعام فقط!).
ليستمر هذا النهج بعد ذلك في تقديم أول وزيرة أميركية من أصول إفريقية، باتريشيا روبرتس هاريس، لتكون وزيرة للإسكان عام 1977، ثم دفع المرشح الأسود جيسي جاكسون ليكون مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية رغم خسارته عام 1984. ثم في النهاية، فوز أول رئيس أميركي ذي أصول إفريقية، باراك حسين أوباما، الذي لم يكن من المستغرب كونه مرشحاً من الحزب الديمقراطي.
لكن، ما الذي تغير في سياسات الحزب الديمقراطي ليجعله أقرب أكثر إلى الأقليات؟ وما الذي تغير في سياسات الحزب الجمهوري ليجعله المدافع عن شعار أميركا الرائعة البيضاء، بعد أن كان أول من نادى بحق السود في الحرية والمساواة بالحياة السياسية؟ هذا سوف نحاول توضيحه -إن شاء الله- في مقالة أخرى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.