مفارقة عجيبة.. "حور عين! نساء لأغراض جنسية؟ وفي كتاب مقدس! كيف يعد الإله الرجال المؤمنين بشيء كهذا؟ كيف يمكن لإله أن يصف أجساد النساء في كتاب مقدس بهذا التفصيل؟ ما هذه الشهوانية المفرطة واحتقار المرأة؟!
مفارقة عجيبة
قال ذلك باستنكار بالغ بينما يطالع في يديه صحيفة الصباح باللغة الألمانية. في صفحة الإعلانات تفرد قسم خاص بإعلانات دور البغاء المحلية في المدينة:
"جديدنا، لوسي الروسية، جسم ممتلئ ونهد بارز! ناتاليا المثيرة، لا يوجد لديها تابوهات! أسعار جديدة مخفضة! اتصل الآن على الخط الساخن واحصل على محادثة ساخنة!".."هذه مجرد خدمة في نظره". في اليد الأخرى كان يقلب بين قنوات التلفزة، على إحدى المحطات كان يعرض حفل انتخاب ملكة جمال الكون، نساء بالغات الجمال يستعرضن أجسادهن بملابس البحر! "هذا تقدير للجمال في نظره"، أمام الطاولة تربع عدد لأحدث المجلات الإباحية على غلافه صورة شقراء عارية!، "هذه ثقافة في نظره"، احتلت الحائط خلف الأريكة لوحة كبيرة لفاتنات بلا ملابس!، "هذا فن في نظره"، على الرفوف المجاورة ارتصت أقراص لأفلام إباحية فيها كل أنواع المجون المتعارف عليه وغير المتعارف عليه، الثنائي والجماعي، السوي والشاذ!، "هذه تجارة في نظره".
لا أدري كيف يمكن للإنسان أحيانا أن يبلغ هذا القدر المفرط من التناقض، فيرفض فكرة وجود حور عين في عالم علوي خلقن كمكافأة للمؤمنين من الرجال، بينما يعيش في واقعه نسخة مشوهة عن جنة مليئة بالنساء اللواتي يعملن أو يُعرضن أو يُصورن لأغراض جنسية مقابل المال! لم تكون هذه الفكرة مدعاة للاستنكار في عالم سماوي غيبي نزع ما في صدور الناس فيه من غل، ومقبولة في واقع أرضي نزعت فيه أسمى القيم الأخلاقية، في حين تنطلق الحالتان من ذات المنطلق، ألا وهو حب الرجل الفطري للجنس! ولا نزال نرى بعد كل ذلك بعض المؤمنين يبحثون عن تفسير ذي دلالة غير جنسية للحور العين، أو يحاولون تبرير الأمر بطريقة ما على استحياء أمام متشدقي هذا العالم، مدعي الأفلاطونية، "المدافعين المزيفين" عن حقوق المرأة، المتناقضين، الغارقين في ازدواجية فاقعة!
النساء يطرحن الأسئلة
وتعقيبا على موضوع الحور العين تُسمع بعض الأصوات وخاصة من النساء تقول على استحياء أن في القرآن الكريم ذكورية وانحياز للرجل، ويستدللن على ذلك بالعديد من الآيات القرآنية التي تتناول شؤون النساء أو بالأخص تلك التي تتحدث عن الحور العين. وهن يحاكمن آيات الحور العين والأوصاف الجسدية الواردة فيها من منطلق ثقافتهن هن، تلك التي تحقر الجنس وتعتبر الاحتفاء بجمال جسد المرأة عارا يجب مداراته، أو تنكره أساسا في ادعاء بمساواة مطلقة بين النساء والرجال، في حين أن الجنس وجمال النساء مسائل يجب أن يسلم بخصوصيتها لدى المرأة ويجب أن تؤخذ بسياقاتها الطبيعية، فيستحسن منها ما كان في الحلال ويستقبح منها ما كان في الحرام.
وعليه فإن الجواب على أسئلة من مثل "لماذا تتسم الكثير من الآيات بالذكورية وبتحقير شأن المرأة؟ وهل القرآن كتاب ذكوري؟" يدفعنا للقول أن من يتهم القرآن بذلك لا بد أنه لم يقرأه كله بقلب بصير، وإن مجرد شيوع هذه الأقوال يجعلنا ننطلق في حكمنا على القرآن من منطلق أعوج متحيز لفكرة مسبقة، فلا نرى إلا الآيات التي تؤكد فكرتنا المسبقة، ولا نفهم إلا ما يتماشى معها.
على أية حال عندما يكون الموضوع مثار جدل كبير، وكل المواضيع المتعلقة بالجنس كذلك، يستعصي على أي شخص قول الحقيقة، لأن هذه الأمور لا تقاس بالعقل وحده ولا يمكن لأي شخص أن يكون موضوعيا مئة بالمئة بسبب تداخل هذا الأمر مع العواطف العنيفة والرغبات العمياء والميول النفسية اللاإرادية، ولذا يتوجب في أمور كهذه التسليم بالإيمان فيما يخص الأقوال السماوية ومحاولة رؤية الأمر بأكبر قدر ممكن من الصفاء الذهني!
هل القرآن كتاب ذكوري؟
انطلاقا من الإيمان بالله تعالى وبأن كتابه هو الكتاب الحق، نحن كمؤمنين نعرف أن القرآن لا يمكن أن يكون كتابا ذكوريا ولا نسويا، لأنه صادر عن خالق الذكور والإناث. وما يتبدى للبعض على أنه آيات ذكورية تقابلها في الحقيقة سور كاملة تتحدث عن نساء بالغات العظمة والحكمة والإيمان، وتضربهن مثالا للمؤمنين أجمعين رجالا ونساءا على حد سواء، يذكرنا الأمر لو أردنا المقارنة بحركة النسوية الحديثة التي تنتج باستمرار فيديوهات تعرض على منصة تيد مثلا أو على يوتيوب أو على التلفاز لقصص نجاح نساء عظيمات في مواجهة ظروف صعبة وعدائية! ولكن شيئا أكثر كمالا وجمالا من كل ذلك وارد في قرآننا الذي نزل يوم كانت توأد الأنثى في الرمل ويسود وجه والدها وهو كظيم!
تريدين بعض التفصيل؟
حسنا حاولي أن تتخيلي معي أن أمورا مماثلة للتي سأذكرها تحدث الآن حقا.. في واقعك هذا، سترين عندها أنه لا يمكن أن يوصف كتاب يحكي قصة امرأة بتول كالعذراء مريم تواجه مجتمعا بأكمله يتهمها بفعل الفاحشة، ليصف عذاباتها وحزنها وتمنيها الموت ومن ثم شجاعتها في مواجهة هذا المجتمع لإثبات براءتها ومن ثم آلامها النسوية في تجربة الحمل والمخاض والولادة وحدها على أنه كتاب ذكوري! لا يمكن أن يوصف كتاب يحكي قصة ملكة عظيمة وسياسية بارعة كبلقيس ملكة سبأ ويشيد بحكمتها في اتخاذ قرارا عجز عن اتخاذه مستشاروها الحكماء من الرجال في إدارة شأن سياسي مع ملك آخر هو سيدنا سليمان، من تبعاته حرب طاحنة بين مملكتين أو سلام بينهما بأنه كتاب ذكوري!
لا يمكن وصف كتاب تحدث عن أم كأم موسى تمر بأقسى تجربة يمكن أن تمر بها أم على وجه الأرض، ألا وهي حماية ابنها من موت محقق وخوفها المفجع على وليدها من القتل، ثم شجاعتها وتوكلها على الله في إنقاذه من ذلك باتخاذ قرار بالغ الخطورة برميه في النهر، ثم لوعة قلبها على فراقه وأخيرا منة الله عليها بتمكنها من إرضاعه بأنه كتاب ذكوري! لا يمكن أن يوصف كتاب وردت فيه قصة امرأة ثورية مناضلة مستعدة للموت في سبيل قضية كبرى كامرأة فرعون التي تبنت أولا النبي موسى طفلا بعطف أمومي، ثم تخلت عن سلطانها وجاهها وثرائها وقاومت أعتى ملوك الأرض تجبرا من أجل إيمانها وحرية قلبها في اتباع الدين الحق الذي جاء به هذا الطفل عندما كبر، ثم استشهدت في سبيل ذلك تحت التعذيب وذكرت قصتها لتكون عبرة لكل رجل وامرأة بأنه كتاب ذكوري!
لا يمكن أن يوصف كتاب تحدث عن حب عارم ملأ قلب امرأة لرجل كحب زليخة لسيدنا يوسف واصفا كل نيران هذا الحب المعتملة في صدر هذه المرأة وكل ما فعلته لتنال وصلا من حبيبها بكلام راق لم ينل من هذه المرأة بل أقر لها بمشاعر قلبها بأرق ما يكون الكلام، ثم أخبرنا بقصة توبتها واعترافها بذنبها وتراجعها عن هذا الحب في سبيل نيل الغفران بأنه كتاب ذكوري! لا يمكن أن يوصف كتاب يذكر قصة جدال امرأة لرأس السلطة في دولتها ألا وهي خولة زوجة أوس ابن الصامت تجادل رسول الله في شأن زوجها، فيردها فتعود فتجادله مطالبة بما تراه لها حقا فيردها فتعترض قائلة: أشكو إلى الله لا إلى رسوله! إلى أن ينزل قول الله مؤيدا لها من فوق سبع سماوات، بأنه كتاب ذكوري! فأي كتاب هذا الذي يتحدث عن المرأة في كل حالاتها، عاشقة ومشتاقة وأما وعاقرا وثائرة وحاكمة ومتهمة ظلما وحزينة وخائفة ومتألمة وراضية ومتمنية للموت ومحتملة للعذاب في سبيل الحق ومجادلة ومطالبة بحقها وجريئة وشجاعة، إلا أن يكون قرآن ربي الحق!
السؤال الأهم
من الواجب إذا طرح سؤال غاية في الموضوعية، ألا وهو لم التركيز على بضع أمور معينة في القرآن مثيرة للجدل فيما يخص المرأة ثم تجاهل سور كاملة تحدثت عنها بشكل غاية في الروعة والتقدير؟ عليك أن تتذكري عزيزتي أن هذه الشكوك التي تعبر في خاطرك إن هي إلا ظاهرة حديثة بدأت مع بداية الدراسات الاستشراقية وصراع الحضارات، فكان من شأن كل مشروع حضاري آخر أن يرى في الإسلام مشروعا حضاريا منافسا له جذوره التاريخية والثقافية الصلبة التي يتوجب زعزعتها وفق قواعد المنافسة! إن فهم هذا الصراع الحضاري يوجب علينا أن نتحلى بقدر أكبر من الوعي في التعامل مع قضايا تمس ثقافتنا وديننا وإرثنا الحضاري لندافع عن ثمينها بكل ما نملك من ثبات وبكل ما نستشعر من عزة وانتماء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.