يستمدّ حكّام المملكة العربية السعودية الكثير من شرعيتهم ونفوذهم في العالم الإسلامي من سيطرتهم وتعهُّدهم برعاية وخدمة المسجد الحرام والكعبة في مكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة. كما يُلقّب الملك سلمان -على غرار مَن سبقوه من الحكام- بـ "خادم الحرمين الشريفين".
وعلى الرغم من تواضع هذا اللقب الملكيّ، تمتلك الأسرة الملكية السعودية تاريخاً طويلاً حافلاً من استغلال منبر المسجد الحرام في مكة؛ من خلال استخدام أئمته في الثناء والدفاع عن الحكّام وتصرّفاتهم، بل وتقديسهم.
في أعقاب مقتل الصحافي جمال خاشقجي، وبينما تتجّه نظرات الاتّهام حول العالم إلى الأمير محمد بن سلمان، استخدمَت الأسرة المالكة السعودية مرّةً أخرى المسجدَ الحرام للدفاع عن وليّ العهد وتأليهه وتعظيمه؛ بأسلوبٍ يجعل شرعيّتهم وسيطرتهم على مكة والمدينة مُقلِقة أخلاقيّاً بشكلٍ غير معهود.
في 19 أكتوبر/تشرين الأول، ألقى الشيخ عبد الرحمن السديس –إمام المسجد الحرام المُعيَّن رسميّاً، وصاحب أعلى سلطة دينية في المملكة- خطبتَه ليوم الجمعة من نص جاهزٍ مكتوب.
تُبثُّ خُطب الجمعة في المسجد الحرام عبر شبكات الكابل والشبكات التلفزيونية والإذاعية ومواقع التواصل الاجتماعي، ويشاهدها ملايين المسلمين بكل توقير وإجلال، كما تحمل في طيّاتها قدراً كبيراً من السلطة الأخلاقية والدينية.
ألقى الإمام السديس خطبةً تبعثُ على القلق، وتنتهك حُرمة المكانة المقدَّسة التي يتقلَّدها. إذ أشار إلى حديثٍ منسوب إلى النبي محمَّد يقول إن الله يُرسِل مرَّةً كلَّ مائة عام مجدِّداً، أي مصلِحاً عظيماً؛ لاسترجاع الإيمان أو لإنعاشهِ وإعادة إحياءه: "يبعث الله على رأس كلِّ مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمرَ دينها". وأوضَح أننا نحتاج المُجدد لمواجهة التحديات الفريدة لكل عصر.
ثمّ شرَع في تمجيد الأمير محمد بن سلمان بوصفه هدية إلهية للمسلمين، وألمَح إلى أن ولي العهد هو المُجدِّد الذي بعثه الله لإحياء العقيدة الإسلامية في عصرنا.
وأعلن الإمام من نفس المنبر الذي ألقى منه خطبته الأخيرة أنّ "مسيرة التجديد والإصلاح في هذه البلاد المباركة… من خلال الحرص والاهتمام مِن الشاب الطموح المُصلح والمُلهَم وليّ عهدها، تواصل متوهجةً المُضيّ قُدماً، مسترشدة برؤيته الثاقبة للتجديد وللحداثة، رغم كل الضغوطات والتهديدات الفاشلة".
كما حذّر الإمام السديس المسلمين من تصديق شائعات وتلميحات وسائل الإعلام المغرضة -مستشهداً بالنقاش والجدل الذي أعقب اغتيال خاشقجي- والتي سعت إلى التشكيك في القائد المسلم العظيم. ووصَفَ المؤامرات ضد ولي العهد بأنها تهدف إلى تدمير الإسلام والمسلمين، مُحذِّراً من أنّ "جميع التهديدات ضد إصلاحاته الحداثية ليس محكوماً عليها بالفشل فحسب، بل إنها سوف تهدِّد الأمن والسلام والاستقرار الدولي".
كما حذَّر من أنَّ الهجمات ضد "هذه الأراضي المباركة" هي استفزاز وإساءة لأكثر من مليار مسلم. كما استخدَم الإمام السديس كلمة "مُحدَّث" أو "الموهوب والمُلهَم بشكلٍ فريدٍ استثنائيّ" لوصف الأمير محمد.
و "مُحدَّثٌ" هو اللقب الذي منَحَه النبيّ محمد لعمر بن الخطاب، أحد صحابته وخليفة المسلمين الثاني. وبهذا فقد شبَّهَ الإمام السديس وليَّ العهد ضمنيّاً بالخليفة عمر.
ودعا الإمام السديس أن يحمي اللهُ الأميرَ محمد من المؤامرات الدولية التي تُحاك ضده من قِبَل أعداء الإسلام، المُدَّعين والمنافقين، وخلَصَ إلى أنه كان من واجب جميع المسلمين دعم وطاعة الملك وولي العهد المخلص، حُماة وحرّاس البقاع المقدسة والإسلام.
لم يستخدم رجالُ الدين السعوديّون منبرَ النبيّ في المسجد الحرام بهذه الوقاحة لخدمة العائلة المالكة السعودية من قبل. لم يقُم أو يجرؤ أيّ إمام من أئمة الحرم المكيّ مِن قَبل على وصف حاكمٍ سعوديٍّ بأنّه "مجدِّد" العصر.
تُقرَأ الخطبة في مكّة والمدينة من ورقة مكتوبة تجري الموافقة عليها مسبقاً من قِبَل السلطات الأمنيّة السعوديّة. وفيما يعيّن الملك إماماً رئيسيّاً في المسجد الحرام في مكّة والمسجد النبويّ في المدينة، إلّا أنّ لكلّ إمامٍ عدداً من النوّاب المُعيّنين بصفةٍ رسمية، يقومون بإمامة الصلوات وإلقاء الخطب.
لعقودٍ مضت، كانت خطب الجمعة في مكّة والمدينة تتناول أمورَ التقوى والعقائد، ويمكن التنبّؤ بها. وكانت تُختَتم دوماً بالدعاء للعائلة المالكة السعوديّة، لكنّ لم يصبغ الأئمة يوماً على الملِك أو الأمراء صفاتِ القداسة، كما أكدوا على وجوب طاعة الحكّام طالما أطاعوا الله فقط.
تغيَّرَ الكثير منذ صعود الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة. فقد سجَنَ وليّ العهد مئات الأئمة السعوديّين البارزين الذين أبدوا ولو القليل من المقاومة – ومنهم فقهاء بارزون ومؤثّرون، مثل الشيخ صالح آل طالب والشيخ بندر عبد العزيز بليلة، الإمامَين السابقَين للحرم المكيّ. ويسعى الادّعاء العام السعوديّ إلى تطبيق عقوبة الإعدام بحقّ الشيخ سلمان العودة، وهو رجل دين إصلاحيّ بارز، اعتقل في سبتمبر/أيلول 2017. وتزعم بعض التقارير أنّ رجلَ دين بارزاً آخر، هو الشيخ سليمان الدويش، المعتقل منذ أبريل/نيسان 2016، قد توفّي في سجن سعوديّ بعد تعذيبه.
يبدو أن الأئمة المسموح لهم بإمامة الصلوات وإلقاء الخطب في الحرم المكيّ والمسجد النبويّ هم فقط أولئك الذين أذعنوا لرغبات وليّ العهد. وقد ذهب بعضُ رجال الدين السعوديّين، مثل الشيخ عبد العزيز الريس، إلى حدّ القول في إحدى المحاضرات إنّ الحاكم السعوديّ "لو زنى على الهواء مباشرة على التليفزيون لمدّة نصف ساعة كلّ يوم، فأنت من المطلوب منك شرعاً أن تجعل الناس تجتمع قلوبهم عليه، لا أن تهيّج الناس على وليّ الأمر".
تضع الخطبة الأخيرة للإمام السديس المسلمين في نقطة تحوّل محوريّة: إمّا أن تقبل بوليّ العهد السعوديّ كمجدّد للإسلام مُلهَم مِن قِبَل السماء، وأن تؤمن وتقبل كلامه وأفعاله، وإمّا أن تكون من أعداء الإسلام. وقد ردَّ عدد من العلماء المسلمين على تلك الخطبة أوّلاً على وسائل التواصل الاجتماعيّ بمزيجٍ من الازدراء والغضب؛ كما تفاعَل عدد من البرامج الكوميديّة والحواريّة العربيّة على يوتيوب بالسخرية والإدانة.
حين يدعو أحد أئمة الحرم المكّي المسلمين إلى قبول رواية الأمير محمد المفككة عن مقتل السيد خاشقجي؛ وإلى قبول أعمال الخطف والاعتقال والتعذيب بحقّ المعارضين، بما في ذلك اعتقال العديد من العلماء المسلمين المبجّلين؛ وإلى تجاهل الحربِ القاسية والوحشيّة التي شنّها على اليمن، وتقويضِه أحلامَ الديمقراطية في العالم العربيّ، ودعمِه السلطة الديكتاتوريّة القمعيّة في مصر؛ يجعل هذا من المستحيل قبول تصنيف الإمام لوليّ العهد بأنّه مجدّد مُلهَم من السماء. إنّ منبر النبيّ في مكّة يجري تدنيسه وانتهاك قدسّيته.
ساعدت السيطرةُ السعوديّة على مكّة والمدينة المؤسسةَ الدينيّة والأسرة الحاكمة المتخمة بأموال النفط على نشر تفسيراتها الحرفيّة والجامدة للإسلام فيما وراء حدود المملكة. لكنّ دائماً ما سيفضل معظم المسلمين إسلاماً متسامحاً وواعياً أخلاقيّاً على تلك النسخة التي يدعمها ويروّج لها وليّ العهد ورجال الدين المُدجَّنون.
يجعل الأمير محمد، باستخدامه منبر المسجد الحرام لتبرئة أفعال الاستبداد والقمع، شرعيةَ سيطرة ووصاية السعودية على الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة محلَّ شكّ.
هذه المدونة مترجمة عن صحيفة The New York Times الأميركية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.