سيبهرك تماماً مثل أرطغرل.. قصة مسلسل «كوت العمارة» والرسائل الخفية التي تحاول تركيا بثها من خلاله

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/11 الساعة 12:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/12 الساعة 08:32 بتوقيت غرينتش
مسلسل "كوت العمارة" التركي

لا أظن أن هناك ما يلفت النَّظر بعمل كهذا، إنه نَمط سينمائي عن أوائل القرن الماضي، لن يستطيعوا المنافسة بإنتاج يضاهي هذه الحقبة التاريخية إنتاجياً وحتى على مستوى السيناريو.

كان هذا انطباعي الخاطئ وتقديري السيئ حين وَقع اسم مسلسل "كوت العمارة" على مسامعي.

كان مسلسل "قيامة أرطغرل" في ذروة نجاحه عربياً وعالمياً من حيث نسب المشاهدة، ويليه في ذلك "السلطان عبدالحميد"، سُئلتُ عن مسلسل "كوت العمارة" بحكم عمل مباشر لي مع بعض الممثلين في مسلسل "قيامة أرطغرل"، لكن إجابتي كانت مقتضبة، إنه عَمل يُسلط الضوء على حرب الجواسيس في فترة الحرب العالمية الأولى، لم أزد ولم يُعقب السائل على إجابتي، فَصمت، لكن بعد ذلك كتبت في مُحرك البحث جوجل مسلسل "كوت العمارة" الحلقة الأولى وبدأت بالمتابعة.

الدقائق الأولى غامضة، مبهرة بَصرياً من حيث استخدام حركة الكاميرا في حركة بَطلين يتسابقان في الجري وبعض التدريبات العسكرية، لا بأس كل الأعمال الفنية تبدأ بما هو مبهر لجذب الانتباه.

مسلسل كوت العمارة
مسلسل كوت العمارة

انتهت الحلقة الأولى وانطباعاتي عن العمل فيما يخصّ السيناريو ونَمط التصوير قد تغير حرفياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إنه عَمل يستحق البحث والمتابعة، كان هذا إقراري الأولي بحكمي المسبق دون اطلاع على العمل.

"كوت العمارة، مهمتشيك".. هكذا اسم المسلسل

تعود كوت العمارة إلى منطقة عراقية في الجنوب الشرقي من البلاد أقرب إلى بغداد منها إلى البصرة، وقعت فيها معركة من كبريات معارك الحرب العالمية الأولى بين الجيش العثماني وقوات الاحتلال الإنكليزية آنذاك.

أم عن لفظ "مهمتشيك" فهو لدى عموم الأتراك يعني الجندي، أما إذا سألت أحد كبار السن من الأتراك، خاصة من المحاربين، فسيُجيببك بأن اللفظ يطلق على "الفدائيين المُحمديين" نسبة إلى سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم). وفي مجمل الحكاية هو لفظ لديه مكانة كبرى لدى الأتراك، ولديه دلالات دينية وعسكرية.

تأسرني الحكايات القديمة والألفاظ ذات الدلالات المعنوية والروحانية، استكلمت متابعة الحلقات بنَهم، السيناريو والحوار مُكدّس بالإسقاطات السياسية الواقعية على فُلك ما تعيشه الأمة من واقع حالياً فيما يخصّ سيطرة الاستخبارات الغربية على الدول المسلمة وحركة الجيوش وتجنيد العملاء وتحريكهم لتنفيذ الخطط والمكائد.

مسلسل كوت العمارة
مسلسل كوت العمارة

الاعتبار والانطباع الثاني بعد المتابعة الأولية للعمل، الحوار داخل السيناريو يخدم الرؤية السياسية التركية في نَمط امتدادتها التي تخلقها في الدول العربية والإفريقية ودول البلقان، والتأكيد على الترابط القوي بين القيادة التركية وعناصرها ومؤيدوها في الدول العربية من ليبيا ومصر وغيرهما.

فلا تنقطع الأحاديث بين الأبطال في الحلقات الأولى عن معارك جنود الدولة العثمانية في ليبيا واليمن، ومحاولة استخلاص العِبر منها لما هو قادم من معارك، وذلك في توجه فريق العمل ضمن حكاية المسلسل إلى العراق لبدء أحداث كوت العمارة الشهيرة، فيما لم يتطرق السيناريو والحوار في هذه النقاط إلى أن تلك المعارك كانت بمثابة غربة للجنود العثمانيين الأتراك أو ما شابه، بل صُدرت فِكرة مخالفة تماماً في نمط الحوار ألا وهي مشاعر الحنين إلى ليبيا على سبيل المثال، ومعاركها وانتصاراتها وجمالها وحياة الصحراء فيها.

الأمر الذي يصدر انطباعاً بأن هذا أمر اعتيادي ضمن وحدة الدول المسلمة، فاختفت هنا نبرة الحنين للموطن الأم واستبدلت بالحنين إلى الموطن الأكثر أبوة بمعنى شامل وهو أقطار الوطن الإسلامي الأكبر.

السياسة التي تحاول تركيا خلق امتدادات لها الآن بنفس النمط في تواجدها الفعّال بشمال ودول وسط إفريقيا عن طريق الاستثمارات والأعمال الخيرية الضخمة عبر مؤسساتها الرسمية.

فكان الحوار منمّقاً بشكل يربط المشاهد والمتلقي مباشرة بما أفسّره أنا بالحنين إلى الوحدة تحت راية الخلافة أو الوحدة المسلمة، فبإمكان السيناريو والحوار تَمرير المشاهد باحترافية بحالات نفسية مختلفة إلى هذا العصر، وبهذه الروح

واجه المسلسل أزمة نوعاً ما في منتصف الجزء الأول، وهي انسحاب البطل الذي أدى دور سليمان العسكري، وهو الممثل التركي كاهان تشانار.

لم يخرج للعلن سبب الانسحاب المفاجئ لكن بحكبة مُبهرة للمتابع تم تَمرير غياب البطل الذي أدى دور سليمان العسكري، القائد التركي للقوات العثمانية، بظهور حثيث لبطل آخر مَرّ بشكل احترافي داخل سياق العمل دونما أن يقلّ إيقاع المسلسل المتسارع والشائق، وهو البطل الذي أدى دور علي الإسكوبي الذي سيصبح أشهر شخصيات المسلسل فيما بعد.

ظهر بشكل مثُير قد يعتبره البعض نَمطياً إلا أن الحرفية في تمريره كانت في الدقائق الأولى التي ظهر بها في سجن القوات الإنكليزية التي أسرت بعضاً من جنود الدولة العثمانية بعد معركة روتا.

ظهور شخصية الإسكوبي الغامضة، الصموتة في السجن الإنكليزي وتحريكه الأحداث برَوية واحترافية وبتخطيطه المحترف حتى تهريب كل السجناء عبر خطة شديدة الدهاء، كانت هذه المرحلة صَك ضمان تمرير الإسكوبي بديلاً عن سليمان العسكري والصعود بالمسلسل لقمة الذروة والتشويق والمتابعة في ظني،

فالاختيار للممثل إسماعيل حجي أوغلو الذي أدى دور علي الإسكوبي على المستوى العملي شديد الدقة، وهو أحد أبطال فيلم تركي رُشح لجائزة الأوسكار وهو فيلم "آيلا.. بنت الحرب" عام 2017.

وأتقن دوره في "كوت العمارة" بشكل شديد الاحترافية كقائد.

لم يَكن اختيار اسمه أيضاً اعتباطياً، فكل ما في المسلسل من تفاصيل له إسقاط ما، فاسم علي الإسكوبي يعود باللقب وهو الإسكوبي إلى مدينة سكوب في يوغسلافيا، مقدونيا حالياً إحدى الدول والمناطق التي كانت تسيطر عليها الإمبراطورية العثمانية.

وهذه دلالة أخرى تم تصديرها في العمل تأكيداً على مشاعر الوحدة والامتدادات العثمانية القوية في أوروبا الشرقية.

فالقائد من إسكوب، يعمل تحت إمرته أربعة من الأتراك من إسطنبول وقيصرى وطرابزون وعدد آخر من الأبطال كانوا ينتمون إلى القبائل العربية في العراق، كشخصية عُمر مستضيف الإسكوبي ورجاله في العراق والذي مد حركتهم وحركة الجيش العثماني في منطقة كوت العمارة بالرجال والسلاح والاستخبارات المطلوبة، وشارك بدور فعال معهم في المعارك.

في هذا المقال أردت فقط تسليط الضوء على كيفية خدمة الأعمال التاريخية التركية للامتدادات السياسية الحالية لإدارة الدولة.

وضَم شريحة أكبر من المتابعين العرب للوضع التركي عن كَثب إلى دائرة الامتدادات التركية المعرفية والسياسية بالبلاد إدارة وتاريخاً.

وكيف لسيناريو محترف وإنتاج ضخم مُحكم التفاصيل أن يُخرج حكاية تاريخية مقبورة بالنسبة لملايين العرب لا يعرفون عنها شيئاً إلى ذروة النجاح، فالعمل احترافي الحَبكة والسيناريو والتصوير والأداء الفني للممثلين، مع التحفظ بالطبع على بعض الأخطاء التاريخية التي صُدِرت من الكاتب كحادثة تمجيد استشهاد سليمان العسكري في واحدة من المعارك ضد الإنكليز مخالفة للواقع الذي يؤكد انتحار سليمان بعد حادثة هزيمته في إحدى المعارك أمام القوات الإنكليزية.

بدأ الموسم الثاني من مسلسل كوت العمارة مهمتشيك تحت اسم جديد "مهمتشيك النصر المُعظم" في مسيرة استكمال تأريخ الحكاية وبنفس الحبكة المتميزة والسيناريو سريع الإيقاع.

مسلسل كوت العمارة
مسلسل كوت العمارة

هذا غَيض من فيض عن العمل الفني الذي يؤرخ حكاية كوت العمارة ثاني أكبر هزائم القوات الإنكليزية في القرن التاسع عشر على يد الجيش العثماني، الذي حرّر كوت العمارة من قبضة الاحتلال في التاسع والعشرين من شهر أبريل عام 1916 بملحمة مقاومة وحصار تستدعي فينا مراجعة التاريخ بدِقة.

فالهنود الحُمر في أميركا الجنوبية حافظوا على تخليد حُزنهم كشعب مقهور منبوذ ببناء هَرمُ من حجارة العابرين وبُصاق أفواهِهم لنبات غريب بالقارة لمدة أكثر من 480 عاماً إلى يومنا هذا في قرية ببيرو على الحدود مع تشيلي.

ونحن المسلمين نُسينا نَصراً في الكوتِ بعد 100 عام، لم نُمجده ولم نعرفه ولم يُسمح لنا حتى بالحُزن على جَهله، فَمن منا قد سَمِع بالكوت قبلاً أو وقعت عيناه عليها في خرائط جغرافيا الكتب المدرسية؟!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أحمد الطوخي
صحفي مصري
صحفي مصري
تحميل المزيد