لماذا ندمر الأشياء التي تُشكل هويتنا؟

عدد القراءات
3,038
عربي بوست
تم النشر: 2018/11/08 الساعة 15:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/09 الساعة 08:23 بتوقيت غرينتش

بالقرب من وسط مدينة القاهرة، يمتد أحد الأحياء لمسافة قدرها كيلومتر واحد من ضفاف نهر النيل وحتى أحد أكثر الشوارع التاريخية أهمية في المدينة. تُعرف هذه المنطقة باسم "مثلث ماسبيرو"، إذ تأخد شكل وتد، وتبلغ مساحتها 85 فداناً، ويقطنها 18 ألف نسمة – حتى هذا العام، حين بدأت الحكومة في إجلاء أكبر قدر من سكانها بالقوة عن طريق قطع المياه والكهرباء، ثم تسوية المباني بالأرض.

تعود أولى بوادر تنمية هذه المنطقة إلى القرن الخامس عشر، والتي شملت بناء مسجد السلطان أبو العلا، الذي لا يزال يقع عند الطرف الشمالي للمنطقة. لكن بنيتها الرئيسية شيدت في القرن التاسع عشر، ثم توارثتها الأجيال بعد ذلك. وعلى مر السنين، شهدت الأراضي الشاغرة في وسط المثلث الكثير من أعمال البناء بشكل غير رسمي، من قبل المقيمين الذين لا يمتلكون حقاً قانونياً للإنشاء، وقد أصبح ذلك تدريجياً جزءاً من التراث المعماري والثقافي لمدينة القاهرة. زُينت بعض واجهات المباني بالدعائم الحجرية متقنة الصنع التي تحمل ما برز من واجهات المباني والشرف، واحتوت مبانيها على سلالم داخلية رخامية، إضافة إلى تصميم الشقق على غرار القصور الإيطالية، التي تحتوي على غرف متتالية ذات سقوف مزينة بالزَخارف الجَصِّية بارتفاع أربعة أمتار.

أما اليوم، عندما تقود سيارتك إلى المدينة، إذا نظرت إلى الأسفل أثناء مرورك على الكوبري الرئيسي بينما تقترب من ميدان التحرير، سترى أن مثلث ماسبيرو صار عبارة عن كتلة من الركام والغبار المتصاعد، في مشهد يذكرنا بصور العديد من المدن بعد الحرب. ولم يبقَ قائماً سوى 12 مبنى أو نحو ذلك، تعرضت أدوار بعضها العليا للتدمير بواسطة الرافعات، وهو النهج الذي اتبعته الحكومة لكي تعلن بعد ذلك أنها مبانٍ غير آمنة.

مع ازدياد عدد السكان في البلاد خلال حقبة الستينيات، وهجرة الكثير من الناس من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، عجز عدد المساكن المتوفرة في المدن عن تلبية حاجة السكان. وشهدت مدينة القاهرة توسعاً داخلياً وخارجياً في نفس الوقت، تمثل في انتشار المباني على حساب الأراضي الزراعية والمنطقة الصحراوية المحيطة بها، وبناء المباني المرتفعة محل الفيلات أو الأراضي الخالية في وسط المدينة. واليوم، يقدر عدد سكان القاهرة الكبرى بنحو 23,5 مليون نسمة، وقد زاد عددهم بنحو 500 ألف شخص في عام 2017. ووفقاً لما ذكرته المصادر الحكومية والمنظمات غير الحكومية، يعيش ثلثا سكانها في أحياء عشوائية. يُلخص مثلث ماسبيرو كل ذلك التاريخ – تاريخ البلاد – ويجسد كذلك الثراء، والسلوك الإنساني والاجتماعي والثقافي، الذي تولد نتيجة التكيف مع التحديات الاقتصادية.

في أواخر القرن التاسع عشر، كانت المنطقة ملكاً لأحد النبلاء العثمانيين الأثرياء، شركس باشا، الذي سمح للخدم العاملين لديه ببناء المنازل على الأرض مقابل الحصول على إيجار. وعندما غادرت عائلة شركس مصر، وعادت إلى تركيا في أربعينيات القرن العشرين، تحولت الأرض إلى وقف، يضمن استمرار استئجار الخدم لتلك المنازل على مدى العقدين التاليين. ثم عادت ملكية تلك الأراضي إلى الحكومة في عام 1968، وبيعت لمستثمرين كويتيين وسعوديين.

بيد أن تلك الصفقات أغفلت حقيقة أن بعض سكان المنطقة كانوا قد باعوا بالفعل حصصهم في قطع الأراضي. وتجاهلت قانون مراقبة الإيجارات لعام 1941 الذي بموجبه لا يمكن إخلاء السكان من منازلهم، ولا يمكن زيادة الإيجار.

 تعامل الرئيس أنور السادات مع هذه المشكلة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بإصدار قرار بوقف أعمال التجديد والترميم لمباني المنطقة – بقصد دفع سكانها لهجرانها قسراً. وفي أواخر التسعينيات، في عهد الرئيس حسني مبارك، صدر قانون يمنح الحكومة الحق في المطالبة بأي شيء، وهدمه من أجل "المنفعة العامة".

كشفت الهيئة الحكومية للتخطيط العمراني في عام 2008، عن خطة تنموية أطلق عليها اسم "القاهرة 2050″، وانطوت تلك الخطة على جعل المدينة تشبه دبي. واعتبرت الخطة "مثلث ماسبيرو" أحد الأحياء الفقيرة العشوائية، الذي عزمت على تجديده ليصبح مثل "منطقة مانهاتن في قلب مدينة القاهرة". كانت تلك الخطة هي الأولى من بين العديد من المقترحات التي قُدمت خلال السنوات اللاحقة، والحكومات المتتالية، ولكن جميعها بقيت مجرد حبر على ورق بسبب النقص في التخطيط أو التمويل أو الدعم.

ثم في عام 2016، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي، أنه سيتم القضاء على جميع الأحياء العشوائية غير الآمنة في غضون عامين. يُعد مثلث ماسبيرو واحداً من بين أكثر المناطق المتنازع عليها، ويرجع ذلك من ناحية إلى موقعه ومكانته التراثية، ومن ناحية أخرى إلى أن ثلثه فقط يُمكن أن يوصف بأنه غير آمن، وفقاً لما ذكره العديد من مهندسي التخطيط العمراني الذين تحدثت إليهم. لقد قضيت سنوات في هذه المنطقة، ومررت بها كل يوم، عندما كنت أعمل في صحيفة أسبوعية محلية في حي مجاور. ومن بين الأماكن التي اعتدت التردد عليه مراراً، مخبز ماسبيرو، وكشك بيع الفاكهة عند ناصية الشارع، والنادي الإيطالي، ومحل الساعات التاريخي هنهايات، الذي يعتبر أقدم محل للساعات في القاهرة.

 لا يستطيع المرء أن ينكر تهالك أجزاء من المدينة، أو أن الإضافات العشوائية على المباني قد لا تكون آمنة. لكن الطريقة العضوية التي تطورت بها هذه المناطق، والتي تمزج بين العراقة التاريخية والجودة المتدنية الناتجة عن الحاجة المفاجئة، تمنحها قيمة ثقافية فريدة. إن تراثها يتبدى مادياً، في شكل المباني والأشجار، ومعنوياً، في العادات والشخصيات.

يتبادل المقيمون في مثلث ماسبيرو الأخبار والوصفات عبر الشرفات، ويتوارثون المهارات التي أوشكت على الانقراض مثل تصليح الساعات من جيل إلى جيل. ويحتضن الحي العادات والتقاليد العريقة التي عفا عليها الزمن: فخلال شهر رمضان المبارك، يسير المسحراتي في الشوارع الضيقة عند الفجر، ويصيح لينبه المسلمين ليستيقظوا لتناول وجبة السحور الأخيرة قبل بداية الصيام. يمتد التاريخ الشفهي لهذه الأزقة على مدى عدة عصور سياسية. وإذا ما رحل سكان "مثلث ماسبيرو"، سيختفي كل ذلك.

قُدمت عروض مالية إلى سكان منطقة ماسبيرو مقابل رحيلهم، شملت 60 ألف جنيه مصري (حوالي 3,350 دولار) للغرفة الواحدة، ورسوم انتقال قدرها 40 ألف جنيه مصري (حوالي 2,200 دولار)، وخيروا ما بين العيش في مساكن مدعومة الإيجار في حي الأسمرات، وهي إحدى الضواحي ذات الدخل المنخفض التي تقع في الصحراء، أو فرصة العودة إلى منطقة ماسبيرو مرة أخرى بعد إعادة بنائها – وهو احتمال لا يصدقه سوى قلة منهم.

سأل صحفي في مقابلة أجراها في شهر أغسطس/آب، مع المهندس خالد صديق، المدير التنفيذي لصندوق تطوير المناطق العشوائية التابع للحكومة، لماذا لا تزال المتاجر التي يصل عددها إلى 290 متجراً في حي الأسمرات مغلقة، على الرغم من إعادة توطين السكان هناك؟ أجاب صديق، قائلاً، "نحن نعمل على توحيد شكل واجهاتها، بحيث تبدو جميعها متشابهة ومتوافقة مع صورة المجتمع المثالي. لن نترك أي مجال للعشوائية لتعود إلى هذه المنطقة مرة أخرى".

ومع ذلك، فإن العشوائية هي السبب الذي يجعلك عندما تكون في القاهرة، كما هو الحال في روما على سبيل المثال، وتنعطف إلى زاوية أو تدخل إلى زقاق متداعي، تجد أطلالاً قديمة.

ولكن حتى مع ارتفاع مستويات المياه التي تهدد الآثار، مثل تمثال أبي الهول، تُترك المعالم الثقافية مثل منزل المغنية أم كلثوم ليُهدم ويباع للمطورين العقاريين. وفي وقت سابق من هذا العام، بدأت الحكومة بهدم فندق جراند كونتيننتال في وسط القاهرة – وهو مبنى مهيب كان موقع إعلان استقلال مصر، وانتهاء الحماية البريطانية في عام 1922 – لإفساح المجال لإنشاء فندق فخم ومركز للتسوق. كان الوصول إلى أهرامات الجيزة يتطلب القيادة لمسافة بعيدة ممتدة في الصحراء؛ أما الآن صارت تقع على حافة المدينة نتيجة للتمدد العمراني.

ربما قد فات الأوان لإنقاذ ما تبقى من مثلث ماسبيرو، لكن هناك أكثر من اثني عشر حياً عشوائياً في مدينة القاهرة وحدها، من المقرر أن تلقى مصيراً مماثلاً، وربما لا تزال هناك فرصة لإنقاذها. ينبغي على الحكومة التوقف عن النظر إلى الخارج لتقليد أجزاء أخرى من العالم. وبدلاً من ذلك، ينبغي أن تصب جل تركيزها على الداخل – على احتياجات سكانها وكرامتهم الإنسانية هنا، وعلى تلك القطعة من التراث العالمي الموجودة في مصر، والتي لا يمكن أبداً استعادتها بمجرد ضياعها.

هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ياسمين الرشيدي
كاتبة مصرية
تحميل المزيد