قالها درويش واستمرَّ في نسج قصيدته إلى آخرها، إلا أنني دائماً ما أتوقف عندها ولا أبالي ببقية القصيدة، أقول في نفسي: سيدي درويش، وددت لو استطعت أن آمر قلبي مثلك، لكن ذلك مستحيل.
لم يعرف قلبي يوماً الحيادية، دائماً يشتعل غضباً أو حماساً أو فرحاً أو حزناً أو أملاً أو يأساً، حباً أو كرهاً.
لطالما تأرجحت بين الأقطاب المتضادة بلا توقف، لم أعش يوماً حالة البرود تلك، ولم أستطع في لحظة ما أن أكون في المنتصف المتعادل من الأشياء، أحياناً يشتد عليَّ المرض من شدة الانفعال، الذي لطالما نصحتني الطبيبة بالابتعاد عنه، لكنني أفشل كما في كل محاولة.
أستطيع أن ألعن الشوارع وقبحها، في نفس اللحظة التي أمتن فيها لنسمات الهواء الباردة التي ترتاد رئتيّ.
أستطيع أن أكره جموع البشر، بؤسهم وقبحهم وسخفهم وضحالتهم، كلها تثير الغضب في نفسي، وأشعر أني أود الرحيل إلى حيث لا وجود لهم، في نفس الوقت الذي أتمعن فيه في أعماق ملامحهم وتجاعيدهم، فألمح كل هذا الحزن الذي سكنها، أتساءل عمَّا فعل الزمن بهم، وأتمنى لو أستطيع تقديم العون لهم جميعاً، وبمنتهى اللامنطقية!
لم أعد أشعر بالانتماء لشيء، مضى وقت طويل على آخر مرة جربت فيها هذا الشعور، لم أعد أبالي بهذا المسمى، صرت أجد نفسي وحيدة بالكامل، أقع في خارج الأشياء دوماً، وأشرد بعيداً عن كل الأحاديث، لا أشبه شيئاً، ولا شيء يشبهني، بالكاد أنتمي لبعض الجماعات الصغيرة من البشر بفعل الجغرافيا والظروف، لكنني ورغم ذلك لا أنتمي لهم بتلك الدرجة التي قد تشعرني بالألفة والارتياح.
صار الاغتراب جزءاً مني، أتمنى لو أستطيع استئصاله يوماً، في نفس الوقت الذي أدرك فيه أن هذا أمل بعيد.
يُطلب من الطير الشريد وحده أن يعود أدراجه ويلتحم بالجماعة، لكن ماذا لو كان الطير لا يستطيع، ولا يجد نفسه إلا غريباً؟ قطبان آخران متضادان، ودوماً أميل إلى قطب الانسلاخ والوحدة، هاربة من قطب لا يثير فيّ سوى شعور بالدوران والأكاذيب.
أدرك أن رأسي هذا لعنة، لعنة كبيرة، فلا أنا أستطيع إفراغه، ولا أنا أستطيع مجاراة ثرثرته المجنونة طيلة الوقت.
أفتقد تلك الأوقات التي كنت أقدر على النوم فيها دون أن أحلم بشيء، صفحة سوداء لا شيء يتخللها منذ نومي وحتى أستيقظ، أتمنى لو أستطيع فعلها مرة أخرى، إلا أنني وفي كل ليلة، أهرب مني إليّ، وأواجه ما أهرب منه في صحوي، وكأن العالم يضحك مني خفية. أفتقد أوقاتاً كنا فيها أصغر، أكثر حيوية وأكثر مرحاً، لا نبالي لشيء، ونطمح لكل شيء، دون أن نضع لأنفسنا عوائق، ودون أن ندرك أن العالم سيضعها لنا على أية حال.
أفتقد عهداً كنا نشعر فيه بالتقارب والتلاحم، إلا أننا كبرنا لنعرف أن لا أحد منا يشبه الآخر في واقع الحال، لكلٍّ طريقه الذي يجب يخوضه، وحده.
أكثر ما يؤلمني في رأسي هو تلك المدينة الأفلاطونية الفاضلة، التي يغزوها البياض الناصع، بلا نقطة سوداء واحدة، الأمر يتخطى كونه مثالية صماء، إلى كونه أرقاً مضنياً، أن تعلم الصواب لكنك لن تستطيع في كل مرة تطبيقه كما هو، أن تختلف البديهيات لديك عن تلك التي لدى الآخرين، أن تصرخ فلا يسمعك أحد، أن تدرك في وقت لاحق أنك تبدو أكثر حماقة في عيون البشر، وأن ذلك لا يقتضي بالضرورة أن تكون على خطأ وهم على صواب، لكن عليك أن تقبل الأمور كما هي، أن تصمت، وتغرق في توحدك مرة أخرى.
لم نعد صغاراً نحلم بتحرير الدنيا من الشرور، بتنا نعرف أننا لن نحرر الأقصى كما كانوا يدّعون، لن ننقذ أطفال سوريا، ولن نخلص الدنيا من الظلم والسواد الذي يحفها من كل جانب، بتنا نعرف أن الأمور لا تسير هكذا، بهذه الفانتازيا، وأننا في كل مرة لن نفعل أكثر من الغضب، وتغيير صورة البروفايل.
تخلَّيتُ عن هذه الأحلام الضخمة قهراً منذ أن غادرت الطفولة، وكل ما بتُّ أحلم به هو أن أمسك زمام حياتي، أن أقول "لا" في وجه كل ما أراه خطأً، أن أنصر الصواب بغض النظر عن عدد تابعيه.
أردت أن أعيش حياتي كما يتراءى لي كل ما هو أخلاقي وعادل وبسيط، لم أعد أحلم بأكثر من هذا.
كل ما تمنيته مؤخراً هو أن يسود الوعي بالحد الأدنى من الرحمة والعدل بين جموع البشر، إلا أن هذا أيضاً كان أبعد مما أتخيل، وأصعب مما أن ينال.
في كل مرة أحاول الخروج إلى العالم، أعود إلى نفسي، ماذا سأفعل في عالم يجردني من كل شيء، من أحلامي وأفكاري، وماذا يبقيني مع بشر يبثون اليأس والنفور في نفسي في كل مرة أهم بالحديث إليهم؟
صرت أجيد المناجاة مع الله وحده، فهو يعلم ما أرمي إليه، وأسأله أن يرشدني. لا أريد يا رب أن أضل طريقاً أضأته أنت داخل عقلي، ولا أريد أن أصير نسخة مشوهة، لا أريد للصواب أن يُحال خطأً، فقط لأنهم يرددون ذلك، أخاف يا رب أن أصير وحدي، فأشعر بالوحشة ويعتريني الضعف، فأحيد عما وهبتني إياه.
كم أحسدك يا سيد سيناترا عندما تغني "I did it my way"، هل يأتي يومٌ في خريف العمر أكون قادرة فيه على ترديد كلماتك بطلاقة؟.. ربما!.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.