تتباهى دولة الكيان الصهيوني كل يوم تقريباً بتلك العلنية الفجّة التي باتت مؤخراً عنواناً لعلاقاتها مع البلدان العربية المختلفة، وتتباها أيضا بالمحادثات التي لطالما اتسمت بالسرية العالية لعقود طويلة، وهي لا تنفك تستغل كل مناسبة لتكشف عنها وتعلن عن الجديد منها، والهدف هو بث تلك الدعاية التي تقول إن الأنظمة العربية تتسابق لبناء علاقات قوية معنا، وتتمنى كل الأنظمة العربية أن تكون لها ميزة القربى أكثر من غيرها.
تسعى دولة الكيان الصهيوني من وراء ذلك لإحباط الشعوب العربية، والزجّ بها في قفص الاستسلام لفكرة مؤداها أن إسرائيل باتت واقعاً لا مفرَّ منه، وكما قال الصحافي الصهيوني إيدي كوهين في مداخلة له على قناة BBC العربية، في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2018، كردٍّ على سؤال المذيع حين سأله عن مغزى زيارة نتانياهو الأخيرة والمفاجئة لسلطنة عمان.
حيث قال المذيع إنه كان الأولى لنتنياهو أن يتحدث مع السعوديين، أو مصر التي لها دور في وساطة بين دولة الكيان وغزة، أو قطر الذين لهم دور تمويلي كبير في غزة، لكن لماذا اختار نتنياهو سلطنة عمان، خاصة أن عمان لها علاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف وليس لديها دور ملموس في القضية الفلسطينية تحديداً، أو اتصالات قوية مع الجانب الإسرائيلي، هل هي زيارة علاقات عامة، وهل يريد نتنياهو أن يقول للعرب، انظروا نحن نُستَقبَل الآن من قبل ملوككم وسلاطينكم في العلن، ومن دون أي خوف؟
حين يرد كوهين بإجابة تتفق مع الدعاية التي تشنها دولة الكيان على المواطن العربي المسكين حين أجاب قائلاً: "سيدي العزيز هذه هي الزيارة العلنية التي تم الكشف عنها، هناك عشرات الزيارات لدول خليجية، هناك أمراء وملوك، وأكرّر أمراء وملوك خليجيون زارونا في أورشليم القدس وفي تل أبيب، الحكام العرب بوجهين، وراء الكواليس بدهم تعامل معنا، وأمام الكاميرات بطبلوا للفلسطينيين، جميع الحكام العرب، جميع الدول العربية، من دون استثناء عندها علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل، لكن الشعوب العربية شعوب بسيطة غسلوا دماغها 50 سنة".
لكن رغم ذلك فالتخبط واضح من خلال سياسة دولة الكيان الصهيوني، في ظل رئيس وزرائها اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو، وهو يحاول وحكومته جاهدين دون جدوى تلميع صورة دولة الكيان بعد حروب غزة الأربع، وانتفاضة السكاكين في القدس المحتلة، وإقدام جنود الاحتلال على قتل المدنيين الفلسطينيين العُزّل بدم بارد، على مرأى ومسمع العالم، وأخيراً التصدي بوحشية غير مبررة لمسيرات العودة الغزية السلمية، التي من الواضح أنها أسقطت آخر أوراق التوت عن عورة الكيان الغاصب المجرم العنصري وفضحته أمام العالم أخيراً، حيث يسعى نتنياهو بجنون لإسكات هذه المسيرات التي أحرجت كيانه وعرَّته أمام العالم، وخاصة الغربي منه، وهو لا ينفك يوسط النظام المصري ومخابراته لوقف تلك المسيرات.
نتنياهو يدرك تماماً الآن أن علاقات كيانه الممتازة مع العرب لا تعدو كونها علاقات مع أنظمة، ويدرك أيضاً أنها بعيدة بُعد السماء عن الأرض بالنسبة للشعوب العربية قاطبة، فهو ككوهين يعلم أن الزعماء العرب نجحوا إلى الآن في غسل أدمغة شعوبهم من خلال القمع، لكن الواضح له أن ذلك لن يستمر إلى الأبد، ولا بأي حال من الأحوال، لكن نتنياهو ما زال يتباهى بتلك العلاقات مع الأنظمة العربية، وهي تبدو لنا نحن الشعوب كحلاوة روح، ونتنياهو ومخ كيانه الصهيوني لا تشكل لهم تلك العلاقات أي وزن إذا ما قورنت بتحسين علاقتهم بدولة أوروبية واحدة دمرتها مسيرات العودة الغزية مؤخراً.
الكل بات يعلم الآن الظروف الصعبة التي تمر بها سمعة دولة الكيان الصهيوني على المستوى العالمي، وخاصة الأوروبي الشعبي والرسمي، ومن غير الممكن سد تلك الفجوة الهائلة، وهي تتسع يوماً بعد آخر، من خلال تحسين العلاقات مع الأنظمة العربية دون الشعوب على الأقل، فنجد أن سياسة دولة الكيان اتخذت طريقاً موازياً، بحيث توجهت نحو الشعوب العربية، فنجد مثلاً حسابات لشخصيات صهيونية بارزة على شبكات التواصل الاجتماعي باللغة العربية، كالناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال الصهيوني، أفخاي أدرعي، الذي للأسف بات له متابعون من العرب البسطاء بمئات الألوف، والصحافي إيدي كوهين وغيرهما.
والكثير من الوزارات في دولة الكيان باتت تنشئ صفحات لها باللغة العربية على ذات المواقع، ومنها على سبيل المثال وزارة الثقافة في دولة الكيان، التي أنشأت صفحة وموقعاً باللغة العربية، يعمل به ويديره عرب ويهود، لتزويد أولئك الباحثين في التاريخ العربي في فلسطين من خلال مراجع ألّفها أصلاً يهود أو نقحها وشارك في تأليفها عرب، يميلون نحو تشجيع السلام والتطبيع مع الكيان.
وبينما يكتشف الباحث الموضوعية في بعض المراجع والصور التي تُثبت أن فلسطين هي وطن العرب الفلسطينيين الأصلي، يتم دس السم في الدسم الذي لا يمكن كشفه إلا من خلال متخصصين في التاريخ، وأيضا التبادل الثقافي التطبيعي، مثل إقامة الحفلات الفنية والمهرجانات التي تستضيف الفنانين والأدباء والعلماء العرب، واستيفاد الطلاب العرب للجامعات العبرية والعكس، وقبل ذلك كله إقامة تلك المناطق في دول عربية مختلفة مجاورة لدولة الكيان، أُطلق عليها Ques Zone، أي مناطق الاختبار، وهي عبارة عن مدن صناعية برؤوس أموال ليهود يحملون الجنسية الإسرائيلية بالذات، أو بشراكات مع رؤوس أموال عربية من ذات الدولة المستضيفة لتلك المدن الصناعية.
يعمل بتلك المناطق عمال عرب ويهود من دولة الكيان، باتفاق يكون 85% من المواد الخام من دولة الكيان و15% المتبقية من الدولة المستضيفة، الهدف من تلك المناطق عزيزي القارئ تجده مشتقاً من اسمها، وهو اختبار مدى تقبل الشعوب العربية للوجود اليهودي الإسرائيلي بينهم كعمال ومديرين وأصحاب مصانع ومستثمرين وما بعد ذلك.
ومع ذلك أعزائي ها هي الأنظمة العربية تلقن بنيامين نتنياهو وكيانه المجرم درساً قوياً في حسن الجوار، والأخلاق العربية الأصيلة، والتسامح والقبول والتعايش، من خلال زيارته الأخيرة والمفاجئة لتلك الدولة التي ظلَّت في سُبات شتوي طويل وعميق، منذ حرب يونيو/حزيران وأكتوبر/تشرين الأول، وحروب الخليج الثلاث، واحتلال العراق، والربيع العربي، وما بعده من دمار سوريا وليبيا، وانقلاب مصر حتى أكتوبر/تشرين الأول 2018، وما إن أفاقت أخيراً -والحمد لله رب العالمين- حتى ارتمت مباشرة في حضن نتنياهو دون مقدمات، لم تجد سوى حضن نتنياهو الدافئ بعد هذا السبات الطويل، لتتمرمغ به، ولتقول له:
نحن نسامح المجرم قاتل الأطفال هادم البيوت وخالع الأشجار ومدنس الأقصى على أفعاله ما إن يطأ بساطنا.
نحن نتقرب من القتلة العنصريين عديمي الرحمة ناكثي العهود والمواثيق الدولية، والذين لا يعترفون لا بحقوق إنسان ولا بقرارات دولية أممية ما إن أكلوا من طعامنا وأصبح بيننا وبينهم عيش وملح.
نحن يا نتنياهو لسنا مثلكم، قلوبنا سوداء صدئة حقودة مليئة بالكراهية والحقد، بل نحن ننسى حقوقنا وحقوق إخواننا الفلسطينيين وغيرهم من العرب مع مرور السنين والتقادم، ويا دار ما دخلك شر، فقط ما إن تشرب قهوتنا يا رجل!
نحن نتغاضى عن احتلالكم لأرض عربية 70 سنة، وها نحن في النهاية نعترف بوجودكم وحقكم في الأرض، فقط لمجرد مصافحة أيدينا لأيديكم، حتى لو تلطَّخت بدماء الأطفال، وينك يا رجل؟!
نحن نسامح وننسى ونتناسى ونتغاضى بمجرد أن تزورنا، ربنا ورسولنا أوصيانا بأن نكرم ضيفنا مهما كان هذا الضيف، ولأجل أن نثبت لكم مدى صدقنا ومدى جديتنا ومدى حسن نوايانا، نحن مستعدون وجاهزون لأن نؤكل كما أكل الثور الأبيض، متى شئتم ذلك، مع كل الحب والتقدير والاحترام، وستجدوننا إن شاء الله من الصابرين بإذنه تعالى، كيف لا؟ وأنتم من دخل بيتنا وداس بساطنا وصافح أيدينا وأكل طعامنا وشرب قهوتنا.
نحن يا نتنياهو بسطاء ومساكين وصغار وضعفاء وأطياب، ولا نبحث عن مشاكل، نحن لا يسعنا إلا أن ننكس رؤوسنا ونحني لكم ظهورنا اتقاء العاصفة والريح، واحتراماً للجار، نحن لسنا مثلكم يا نتنياهو ويا ليتكم تتعلمون! يا ليتكم تتعلمون الأخلاق البدوية العربية الأصيلة على طريقتنا وطريقة مشايخنا.. يا ليتكم!.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.