عندما شاهدت خبر اغتيال الإعلامي السعودي جمال خاشقجي يتوسط شاشات التلفزة العربية والعالمية وأغلب مواقع التواصل الاجتماعي تأججت ذاكرة الحبر في رأسي وسرعان ما التهبت تعاني مزيدا من هطول الأسئلة وسيل الاحتمالات ولكن أول ما داهم ذاكرتي مقطع من إحدى قصائد الشاعر العراقي مظفر النواب وهو يقول:
هذه الحادثة حملتني إلى الماضي أبحث وأطالع بين سطور ذاكرته القديمة، حين كانت شوارع العرب في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم تشهد انتفاضات وحراكات شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن ضمنها كانت شوارع المملكة السعودية والتي كان لها نصيب أيضا من هذه الانتفاضات والتي حملت أسماء عدة مثل اتحاد شعوب الجزيرة العربية، والتي كان قطبها وممثلها الأساسي آنذاك الكاتب السعودي ناصر السعيد الشمري ابن مدينة حائل والذي له مسيرة نضالية طويلة في ساحات المملكة، ابتدأت منذ إعلان جمهوريته العمالية بعنوانها الرئيس "العدالة" حين قاد تظاهرات وحراكات من قلب شركة آرامكو مطالبا بحقوق العمال السعوديين والعرب لتتوسع دائرة حراكه رويدا رويدا، لتعانق قضية فلسطين.
الأمر الذي لم يرق لحكام المملكة التي أقدمت أجهزتها الأمنية على اعتقال ناصر الذي وسع بدوره دائرة مطالبه لتشمل نظام الحكم والمطالبة بدمقرطة الدولة وإحداث المؤسسات وتشكيل الأحزاب السياسية فما أن يخرج ناصر من زنزانته حتى يعود إليها إلى أن اضطر أخيرا إلى مغادرة المملكة نهائيا بعد أن صدرت أوامر عليا باعتقاله وأعدامه بدعوى الخيانة خاصة بعد أن بدأ بكتابه الشهير تاريخ آل سعود والذي فضح فيه حكام المملكة وتاريخهم وبأحقية الثورة ضدهم الكتاب الذي كان ثمن حياته فيما بعد.
تنقل ناصر السعيد في منفاه بين مصر واليمن وسوريا إلى أن استقر في عاصمة الفقراء والثورة آنذاك بيروت الغربية قبل أن تقدم مخابرات المملكة على اختطافه عن طريق سفيرها في بيروت بالتعاون مع قيادات أمنية فلسطينية من ضمنها المدعو أبو الزعيم عطالله لقاء عشرة آلاف دولار كما تفيد الروايات والدراسات. تم اختطاف ناصر من قلب جمهورية الفاكهاني في بيروت الغربية ثم ترحيله إلى المملكة ليتم رميه حيا من إحدى الطائرات فوق صحراء الربع الخالي ليندثر جسده بين رمال الصحراء دونما شاهدة أو فاتحة تليق بموت طبيعي لإنسان في أي بلد عربي ولكنها رسالة أرادت الطبقة الحاكمة إيصالها إلى كل المعارضين السعوديين ودعاة الإصلاح والحرية.
اليوم بعد مضي تسعة وثلاثون عاما على اغتيال ناصر حيا من الجو لم تتوقف مملكة الظلام عند ناصر فقد استمرت بمنهجها الوحشي في اغتيال المفكرين والدعاة والتي ربما كان أخرها حادثة اغتيال الاعلامي السعودي جمال خاشقجي ذو الستين عاما ابن المدينة المنورة والذي تم قتله داخل مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول. جمال خاشقجي الذي كان أحد رواد الديمقراطية الجدد في المملكة واحد أهم منظريها فهو لم يكن ليبراليا ولا إخوانيا كان يؤمن فقط بالديمقراطية كمذهب وأسلوب حياة ويحلم بأن تصبح الدول العربية أوطان ديمقراطية تحترم مواطنيها أي كانت آرائهم وتكرم مثقفيها ومبدعيها ومن ضمن ما أشار إليه جمال في أطروحاته وكتاباته عن وجه الشبه بين الصين والسعودية.
فالأولى انتهجت الشيوعية الاستبدادية طريقا لها والتي كانت عائقا أمام دمقرطة الدولة والمجتمع بطريقة حديثة. في حين أن الثانية أي السعودية استندت إلى مفاهيم سلفية خاطئة مكنتها من القبضة الاستبدادية بعدم الخروج على ولي الأمر. الأمر الذي اصطدم بمفهوم الديمقراطية والحداثة. هذه الصيحات والأفكار أزعجت نظام حكم مملكة الظلام التي قررت كتم صوت جمال إلى الأبد من منظورها فأقدمت على قتله وتقطيع جسده بواسطة منشار ومن ثم ترحيل أعضاءه إلى المملكة بطريقة اعتبرها كثيرون الأسوأ في تاريخ أنظمة الاستبداد في العالم أجمع ضد معارضيها.
فمن ناصر إلى جمال لم يتغير منهج الظلام الذي تبنته المملكة ونظامها فإذا كانت حادثة اغتيال ناصر السعيد قد مرت دون صدى شعبي ربما لعدة عوامل أهمها أن أنظمة الحكم الاستبدادية العربية حجبت كل منابر الحقيقة عن شعوبها التي كانت تخشى ظلام وحقد هذه الأنظمة التي أجبرتها على تعاطي الحرية والأفكار سرا خوفا من الطغاة إضافة إلى ضعف وسائل الإعلام في تلك الفترة من حيث وسائله القديمة والتي برغم ضعفها كانت تحت سيطرة ومراقبة أجهزة أمن الدولة.
أما اليوم وفي ظل ما يشهده الإعلام من تطور وحداثة من حيث الوسائل والإمكانيات عبر قنوات تلفزيونية ومواقع وصحف غير رسمية وغير حكومية إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي كلها تقريبا أسهمت في تقديم الرأي والرأي الأخر للمواطن العربي والذي رفع عن كاهله جدار الخوف منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وقدمت إليه العالم أمام عينيه ليسهل عليه عملية البحث والتقصي عن الحقائق كل هذا وسع مدارك المواطن العربي الذي لم يرضى البقاء صامتا أمام تجاوزات الأنظمة العربية عموما ومملكة الظلام خصوصا وخاصة بعد أن تولى محمد بن سلمان زمام الحكم في المملكة والتي بدورها وعبر أجهزتها الأمنية رفعت سقف العقوبات ضد كل الدعاة والمعارضين فطالت حملات الاعتقال الأخيرة كثيرا. من رموز المعارضة كان من بينهم المفكر والداعية السعودي سلمان العودة. كل هذه الممارسات الوحشية والتعسفية تفضي إلى حتمية زوال الأنظمة وأن الشعوب هي صاحبة الشرعية في تقرير مصيرها وأن التاريخ سيدون في سجل الخالدين كل الأحرار من ناصر إلى جمال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.