في ذكرى ثانوية مولاي الطيب العلوي

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/31 الساعة 09:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/31 الساعة 09:53 بتوقيت غرينتش
طلاب في مدرسة ثانوية

لا زلت أتذكر تلك الفوارق الطبقية والتصنيفات العجيبة لتلاميذ ثانوية مولاي الطيب العلوي بسلا، فمنذ أول يوم خطوت في ساحتها، بدا لي جلياً أن المساواة الاجتماعية والتأقلم في جو متنوع لن يكون أمر سهلاً بذلك المكان، لن أنكر أن مرحلة الإعدادي اتسمت بتلك الفروقات أيضاً، لكنها لم تكن بنفس القدر، حيث إن محاولة إثبات الذات والتمتع بالشعبية تكبر عند الالتحاق بآخر محطة تعليمية قبل الدراسات العليا.

مشواري بدأ في 2006، كنت يافعاً مملوءاً بالحيوية ومتحمس كأي مراهق، ولوج عالم الثانوي بالنسبة لي أضحى حلماً يتحقق، فالثانوية كانت متاخمة لإعدادية سلمان الفارسي، التي تحولت لاحقاً إلى مركز أقسام تحضيرية.

كنت أنا ومن معي من زملاء القسم نمنِّي أنفسنا دائماً باكتشاف ذلك الفضاء المغري، تارة عند رؤية أحد التلاميذ مرتدياً موضة جديدة يتوجه للثانوية، أو آخر رفع عجلة دراجته النارية الأمامية، حركة كان يفعلها التلاميذ لجذب الأنظار واستمالة الفتيات، كانت غالب تلك الدراجات من نوع "سكوتر"، "سي بي إر"، أو "بورغمان" الذي لم يظهر حتى عامي الثاني أو الثالث بالمؤسسة.

تحققت الأمنية، وحان دوري أنا أيضاً لأجرب ذلك الإحساس، أن تكون تلميذاً بالثانوية، لكن الواقع كان صادماً، فالتميز بالشعبية لم يكن يقتصر على مدى لطفك أو مستواك الدراسي، بل إن شعبتك قد تحكم عليك بالنبذ قبل البداية، فقد كان "الأدبيون" آنذاك مهمشين باعتبارهم أقل قيمة وفقراء نسبياً.

لن أفند ذلك، فالتوزيع المشين يحتمل جزءاً من الصواب، كان أغلب الأدبيين قادمين من أحياء شعبية كحي مولاي إسماعيل، حي الانبعاث، سهب القايد وغيرها، بساطتهم تظهر في لباسهم وطريقة كلامهم، لكن هذا ليس تعميماً ولا ينتقص من إمكانياتهم المدرسية شيئاً، أريد فقط الإشارة لتلك المفارقات العجيبة والقوانين التي لا أعرف من سنها بالأساس، فقد كانت موجودة بالفعل قبل أن ألج الفصل.

الأذكياء، أو "العلميون"، الذين كنت أحقد على بعضهم، كانوا المحببين للإدارة والأوسع شهرة في صفوف التلاميذ، فلا يمكن أن تقارن القسم الذي تدرس فيه "بنت المعيدة" و"ابن الدبلوماسي" بذلك الذي يدرس فيه تلميذ مشاغب، يتناول "المعجون"، وآخر يشتغل قاطع طريق بعد نهاية ساعات الدراسة.

لكي تكون فريداً ومرغوباً فيه بذلك المشفى، نعم فقد كانت تترافد الحكايات حول كون الثانوية مصحة نفسية في القديم لما وضع من أسيجة حديدية على نوافذها، وبنائها الذي لا يتجاوز الطبقة الأولى، بل إن جلّ القاعات كانت تتواجد بالطابق الأرضي!

كان لزاماً أن تترك بصمتك في أحد المجالات، فبعض تلاميذ شعبة العلوم الرياضية عرفوا بالتفوق، وكنت تراهم محاطين بالبنات عند الفسحة رقم بشاعة بعضهم، فالتلميذة تهمها النقطة ومن يشرح لها فقط، ولا تمانع تملق ذاك الذي يمضي الساعات الطوال أمام الكراسة، ومناه الأسمى في الحياة الاجتماعية أن تقول له أنثى مرحباً.

أما ثلة أخرى، فكانوا "أغنياء الثانوية" هذا يأتي في دراجة تفوق سيارة الأستاذ ثمناً، وآخر يلبس حلة لكل يوم، كأن أباه يملك مصنعاً للملابس، وأخرى يوصلها أبوها على متن سيارة "رونو فليونس" سوداء التي كانت ذائعة الصيت حينئذ.

سبحان الله، حتى في الحصص البينية الفارغة، كنت ترى التلاميذ يحومون حول عازفي القيثار، وآخرين يطلبون إفطاراً صباحياً في "بطانة"، فالميسورون تلقاهم عند "المحلبة" واقفين، والأكثر يسراً لا يبارحون الثانوية، فهناك مقصف هناك، لكن أثمانه مرتفعة، أما المعوزون فيجرون الخطى إلى بائع "الكارونتيكا" الذي استقر مع عربته بمرآب قديم، يتوافد عليه الزبائن من أغلب المدارس المجاورة، أكله يشبع والأداء يكاد لا يضر الجيب.

لم ترُق لي "الكارونتيكا" كثيراً، فقد كانت تسبب لي حساسية جلدية، ربما البيض المستعمل فيها فاسد، أو هي مناعتي لم تسطع عليها صبراً، لذلك فضلت في معظم الأوقات البقاء في ساحة الرياضة أتأمل لاعبي الكرة، بعضهم عُرف بإجادة اللعبة، وكانت فرق الأقسام تسارع في دعوتهم للعب معها عند اقتراب الدوري.

وأنا جالس هناك، كنت أتخيل نفسي معروفاً أيضاً، تتلقفني الأنظار وتتهافت على هاته وتلك، قبل أن يدقّ جرس انتهاء الاستراحة وأعود للواقع الملموس.

كان النجاح الدراسي بالنسبة لي ضرورة قصوى، فقد كان أبي لا ينفك يشجعني لبذل مجهود أكبر، وكانت نظرة أمي مودعة لي كل صباح تترك في نفسي عزيمة وإصراراً كبيرين لإفراح قلبها.

الثانوية لم تكن بالجوار، المشي إليها كان يستغرق نصف ساعة من الزمن، ولأن جدول الحصص الأسبوعية مملوء غالباً، كنا نقضي إجمالياً يومياً يصل إلى ساعتين من السير ذهاباً وإياباً، لم تنل أبداً من شغفي بالدراسة، لكني كنت أكره مشقة فصل الشتاء، وحل في السبيل، وضايات ماء تغسلك بها كل مركبة تمر قرب الرصيف.

كثيراً ما كنت أصل مبلولاً، جبيني قد ندى، ولباسي تكاد لا تجد فيه بقعة لم يطلها المطر، كنت أترك المعطف ليجف، فهو الأكثر امتصاصاً، والأثقل حملاً، وحين أرتجف برداً أسارع إلى لبسه تارة أخرى، فالأقسام كانت غير مكيفة، وبعض الأسقف غلبت عليها الرطوبة، وعندما تقطر، يتغير شكل ترتيب الطاولات، فتصبح عشوائية المنظر.

شهر رمضان الذي كان يصادف دائماً شهور الدراسة الأولى، كان يحظى آنذاك باهتمام عظيم، ساعات الدراسة تتقلص، وأشكال المرح والمتعة تتناسل، فهذه مجموعة تلعب الورق تحت مسمى "الحكيم"، وأخرى توارت خلف سور الثانوية لاهثة وراء أحد عازفي القيثار أو صانعي الفرجة ممن يحكون النكت، أما النشاط الذي لطالما أعجب به التلاميذ فكان دوري كرة القدم الذي تنطلق مبارياته بعد نهاية آخر حصة مسائية.

كنت أفضل الذهاب إلى المنزل لمشاهدة التلفاز والاسترخاء، وإعداد تمارين اليوم التالي، ولأن المسيرة إلى المنزل مضنية، فقد توقفت عن أخذ المطابع معي إلى حجرات الدرس إلا لضرورة قصوى، فبعض الأساتذة يشترطون وجود كتابين فوق الطاولة، وغالباً ما كنت أتفق مع زميلي على تبادل الأدوار في جلب الكتاب اللعين، عندما يتعلق الأمر بمادة يغنينا شرح الأستاذ عما يوجد في الكتاب لفهمها، ورغم عدم صحة نظريتنا، كانت حجة لتخفيف ثقل حقيبة الظهر المتخمة بالدفاتر، التي يزداد ضغطها على الأكتاف عندما يتخلل اليوم حصة رياضة.

وبالحديث عن حصة الرياضة، فلم أكن من أشد المعجبين بها، لا لسبب إلا عدم اهتمام الأستاذ بتأطيرنا نحن الذكور، كان يلقي لنا كرة يد، كرة سلة أو كرة قدم، ثم ينصرف للانشغال بالفتيات، يحضر لهن زرابي "الجمناستيك" المبطنة، ثم يحثهن على الإتيان بمجموعة حركات، تحلو له المشاهدة وهن يقمن بها.

كانت المتحفظات من زميلات القسم يرفضن أداء تلك التمارين ولو انعكس ذلك سلباً على نقطة المادة؛ لأنهن عرفن وقاحة وسوء نية ذلك الأستاذ، فهو يبادر في كثير من المرات إلى إمساك هذه التلميذة أو تلك ليريها كيفية إتقان حركة معينة، ما يسبب إحراجاً لكثير منهن، لكنهن يفضلن الكتمان وعدم إبداء الامتعاض خوفاً على ضياع النقطة التي قد تعوض نقصاً في مادة أخرى.

لم يكن فضاء الرياضة يتوافر على مكان للاستحمام، كل ما كان بوسعنا فعله هو تغيير الملابس ثم التوجّه للصنابير من أجل غسل الأطراف، الغالبية كانوا يكتفون بإنعاش وجوههم بالماء البارد، قبل ولوج الحصة الموالية، التي تمر عذاباً على الأستاذ والتلاميذ أيضاً؛ لأن عدداً ليس بيسير يلج القاعة بحذاء الرياضة المشبع برائحة العرق الفواحة، فتهم بعض الفتيات إلى محاولة جادة لتعطير القسم برشّ مزيل العرق في الأجواء، بينما يكتفي الأستاذ بفتح النوافذ، فمعاناته تكون أقل؛ لنظراً لقبوع مكتبه بعيداً نسبياً عن الطاولات.

كنت أتعجب من التوزيع العشوائي للحصص على "جدول الزمن" كما كنا نسميه، فأنت تطوي صفحة الرياضة مرهقاً تعباً، لتجد نفسك تدرس الرياضيات أو الجغرافيا، الأدهى والأمر، أن تنتهي من الحصص الصباحية في منتصف النهار، ثم تعود إلى المنزل وتنتظر حصة مسائية تفتتح في الرابعة بعد الزوال، هذا ما ألفنا الاصطلاح عليه بـ"الساعات المثقوبة".

على العموم، كانت جودة التعليم بالثانوية أفضل من نظيراتها، فقد عرفت بصرامة الهيئة التدريسية، لكن ذلك لا يمنع وجود بعض الأساتذة الكسالى، كأستاذ مادة الإنكليزية الذي يطلب منا إنجاز تمرين بسيط على مدى ساعة من الزمن، بينما يأخذ غفوة يرتاح فيها من إعياء دروس التقويم والدعم التي يلقيها بمعاهد خاصة يشتغل فيها بالموازاة مع عمله الرسمي، حسب ما تناقلته الألسن.

كنت أشعر بالأسى على أستاذ لغة عربية طيَّب القلب، يمضي وقت الحصة في الخروج من القاعة والدخول إليها، وذلك لتدخين السجائر، كان إدمانه شديداً، فالتهامه السريع للفائف التبغ كأنه في سباق مع الحياة، لطالما أثار عندنا العجب والذهول.

قصص الثانوية الغريبة لا أكاد أستطيع لها حصراً، وتبقى إحدى الوقائع التي أتذكرها جيداً، عندما كنت واقفاً مع رفيقين لي في زقاق حي مجاور ننتظر جرس الدخول المسائي، إذا بشاب مفتول العضلات يمر قبالتنا رفقة فتاة يبدو أنها خليلته، فصاح به أحدنا بعد أن بلغا نهاية الشارع: "طلق الدجاجة لمواليها"، سمعه الشاب فاستدار وأراد القدوم للفتك بمن سبه، فمنعته الفتاة قائلة: "خليهوم، هادوك غير براهش"، مضوا في طريقهم، وظننا أننا نجونا من الموقف.

بعد فترة وجيزة، إذا بنفس الشاب يعود من نفس الطريق وحيداً هذه المرة، اتجه صوبنا، لم نفكر في الهرب فنحن عصبة، اقترب من صديقيّ وتفوّه بكلام ناب قبل أن يمسك بهما ويضرب بعضهما ببعض كما في برامج المصارعة، استمتعت بثوانٍ قليلة من المشهد السينمائي، قبل أن أتحرك ببطء متنائياً عن الأنظار، وعند وصولي لزاوية الشارع، أطلقت سيقاني للريح.

ترددت في الذهاب إلى حصة المساء، لكني أذعنت في نهاية الأمر، كانت فرائصي ترتعد، وأسفت لما لحق برفيقي من أذى، الطريف أنهما التحقا بالحصة أيضاً، وجدتهما جالسين يتمازحان، وقالا لي بنبرة ساخرة: "كلينا تفرشيخة ديال العصا أخاي أسامة، راه حلف علينا"، كنا نخشى عودته للانتقام في المساء، لكن الأمور مرّت بسلام، وحمدنا الله كثيراً على ذلك.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسامة حمامة
مهتم بالنقد الساخر والفنون البصرية
تحميل المزيد