تدخل جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي ربع الساعة الأخير، والغضب يُغَلِّفُ أركان المسكونة، ونيران الانتقادات الدولية ما تزال تستعر في وجه المملكة العربية السعودية وولي عهدها محمد بن سلمان الذي تتهمه الكثير من العواصم الغربية علانيةً بضلوعه في عملية اغتيال الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، وتقطيعه والتمثيل بجثته بطريقة وحشية بدائية لم تعرفها سجلات الاغتيالات السياسية المعاصرة على كثرتها.
رويداً رويداً تتكشف خيوط الجريمة، ويتقدم مسار التحقيق الذي تقوده تركيا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية التي ترى نفسها قد أوحلت في مستنقع لا تعرف مناصاً للخروج منه، فالتسريبات التركية ما تزال على أشدها، والجثة لم يحسم مصيرها حتى الآن، والمملكة ما تزال تقدم روايات رعناء لا يمكن أن تقنع المجتمع الدولي الغاضب من هول وبشاعة الجريمة، واستخفاف الإدارة السعودية بذكاء زعماء وشعوب العالم المطالبين بسبر أغوار الحقيقة.
ربما ينسحب هذا الموقف المتشدد والمتشكك من المملكة، والمطالب بإطلاق يد العدالة على معظم دول العالم عدا إسرائيل التي ما تزال ترقب تداعيات عملية الاغتيال الوحشية بحذر شديد وقلق بالغ على مستقبل العلاقة الإسرائيلية السعودية في حال أطاحت هذه القضية برأس محمد بن سلمان الذي تعتبره تل ابيب "حلم إسرائيل الكبير"، وترى فيه القوي الأمين الذي يمكن الركون إليه للحفاظ على ما تسميه التحالف الإسرائيلي السني لمجابهة الخطر الإيراني وحركات المقاومة في المنطقة العربية.
في الواقع لم تخفِ الدوائر السياسية والفكرية في إسرائيل انزعاجها الشديد من سوء أداء جهاز الاستخبارات السعودي حتى وصف أحد الكتاب الصهاينة فريق الاغتيال بالقتلة الهواة الذين يفتقرون إلى الخبرة والتخطيط الجيد والرعونة في تحديد المكان والأسلوب المستخدم في تصفية جمال خاشقجي. ويجمع السياسيون والمحللون والمفكرون الصهاينة أصحاب الباع الطويل في اغتيال نشطاء المقاومة الفلسطينية والعلماء العرب على أن المملكة مصابة بداء العمى الاستراتيجي، والتخبط والارتباك الرهيب في مواجهة الحملات الدولية التي تشير بأصبع الاتهام إلى الجهة التي أمرت بتنفيذ عملية الاغتيال المخزية وتقصد بذلك ولي العهد بالتحديد.
وفي مقاله الذي حمل عنوان "لماذا اغتيال خاشقجي هو كارثة لإسرائيل؟" المنشور في صحيفة هآرتس بتاريخ 20 أكتوبر الماضي، أشار دان شابيرو، السفير الأسبق للولايات المتحدة في تل ابيب إلى أن (من مصلحة إسرائيل أن يبقى محمد بن سلمان في منصبه لضمان بقاء التحالف السني الإسرائيلي الذي تقوده المملكة العربية السعودية لمواجهة إيران، مضيفاً أن على إسرائيل أن تتعامل مع قضية خاشقجي بحذر شديد؛ سيما أن الرواية السعودية لمقتله لم تقنع المجتمع الدولي، مشدداً على أن سقوط محمد بن سلمان سيكون له تأثير سلبي على المكانة الاستراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة).
وبالرغم من موجة التحديث العاتية التي تشهدها المملكة على يد ولي العهد الجديد ذي النزعة اللبرالية، وإغداق الأموال الوفيرة على الولايات المتحدة، ورزمة الأهداف الاستراتيجية المشتركة بين البلدين والتي لا يمكن التضحية بها بسهولة، إلا أن الأوساط السياسية والتشريعية في الولايات المتحدة تشعر بغضب شديد من سلوك محمد بن سلمان الذي أصبح يلعب وراء الخطوط الحمراء.
لا شك أن هذا التحول الجديد، والجفاء السياسي المتصاعد بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، وسقوط ولي العهد الجديد سيضر بمستقبل التحالف الإسرائيلي السعودي، ويوقف عجلة التطبيع بين البلدين، ويضع مصير صفقة القرن على المحك؛ فإسرائيل تعتبر القيادة السعودية الجديدة فرصة ذهبية لتمرير مشاريعها السياسية والاقتصادية في المنطقة، وتحقيق الكثير من المكاسب التي عجزت عن تحقيقها في حروبها مع الدول العربية.
وكتب "معهد أبحاث الأمن القومي" التابع لجامعة تل أبيب تقدير موقف بشأن تداعيات قضية خاشقجي على إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط، مبيناً (أن حادثة اغتيال خاشقجي بسفارة بلاده في تركيا تضع العلاقات بين السعودية وأميركا أمام تحديات لم تعهدها منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأوضح تقدير الموقف أن التطورات الأخيرة تعزز الاضطرابات الداخلية التي كانت موجودة لبعض الوقت في السعودية في ظل السلوك والنهج التصادمي لولي العهد محمد بن سلمان، ورجح أن تؤدي قضية خاشقجي إلى فترة من عدم الاستقرار في المملكة، التي من المهم التحضير لها إسرائيليا).
ولعل هذا التخوف الإسرائيلي المتزايد على مصير محمد بن سلمان، والحلف السعودي الجديد الذي يضم في عضويته إسرائيل نفسها هو ما دفع الأخيرة إلى ممارسة الضغط الهائل على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأعضاء الكونجرس لتخفيف حدة الانتقادات الموجهة للسعودية وولي العهد على وجه الخصوص، وجندت كل ما تمتلكه من لوبي وجماعات ضغط في الولايات المتحدة لإعادة التوازن للموقف الأمريكي إزاء المملكة، ومحاولة لملمة القضية وتطويقها بأكباش الفداء دون تحميل ولي العهد شخصياً المسؤولية.
ورغم ما تبذله إسرائيل من جهود لتجميل وجه ولي العهد إلا انها باتت مقتنعة يقيناً أن الاضطراب وعدم الاستقرار قد ضرب بيت الحكم في المملكة، ومن الصعب احتواء الموقف الدولي المناوئ لولي العهد والساخط على أفعاله الشنعاء، ولا يرى فيه شريكاً سياسياً يمكن الوثوق به أو الركون إليه في المستقبل.
يبدو أن إسرائيل صاحبة الرصيد الكبير في القتل والتصفية غير متعاطفة مع المغدور جمال خاشقجي لمواقفه الرافضة للوجود اليهودي في فلسطين، حيث قال في أحد تغريداته (إن اليهود بلا تاريخ، ولا حق لهم في فلسطين، لذلك اخترعوا حائط المبكى لتهويد المعالم الإسلامية في مدينة القدس). كما صدح المغدور رحمه الله بموقفه الرافض للتقارب الإسرائيلي السعودي قائلاً: (إن أي علاقات مع الدولة اليهودية ستشوّه سمعة المملكة في العالم العربي والإسلامي، ولن تحقق المملكة من وراء هذا التعاون أي مردود سوى التسويق لإسرائيل في المحيط العربي).
ما تحلم به إسرائيل في اللحظة الراهنة هو أن تتفتق قرائح الأتراك والأمريكان والسعوديين لعقد صفقة سياسية مشتركة للخلاص من دم خاشقجى للأبد، وبذلك يتلاشى لحاء النار عن عنق ولي العهد محمد بن سلمان
ولعل هذا ما يفسر أن التخوف والقلق الإسرائيلي لم يكن باعثه بأي حال الطبيعة البشعة للجريمة التي ارتكبتها السلطات السعودية، وإنما في الأسلوب غير الاحترافي في إخفاء الأدلة والتستر عليها؛ الأمر الذي وضع المصالح الإسرائيلية في بحر من المياه المائجة الذي لا يمكن لقارب النجاة عبوره دون مخاطر.
ما تحلم به إسرائيل في اللحظة الراهنة هو أن تتفتق قرائح الأتراك والأمريكان والسعوديين لعقد صفقة سياسية مشتركة للخلاص من دم خاشقجى للأبد، وبذلك يتلاشى لحاء النار عن عنق ولي العهد محمد بن سلمان، وتنتهي موجة الحنق الدولي على حليفهم الاستراتيجي. وتعتقد إسرائيل أن المملكة يمكنها تقديم الرشوة السياسية لتركيا والولايات المتحدة والدول التي تبدي استيائها الشديد من أداء ولي العهد وسلوكه الاستبدادي الغاشم في الكثير من الملفات الداخلية والإقليمية.
لربما يكون هذا التوجه هو الخيار الأفضل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي حاول التستر والتغطية على الجريمة منذ البداية، وأبدى اقتناعه بالرواية السعودية. لكن ما أثاره بالأساس هو أن السعودية خانت ثقته بفشلها المتكرر والمثير للضحك والاستفزاز في تركيب رواية منطقية يمكن للرئيس ترامب أن يتبناها، ويدافع عنها أمام الرأي العام المحلي والدولي. من الواضح أن إبرام صفقة بهذا الحجم في الوقت الراهن هو أمرٌ صعبٌ جداً في ظل ما تمتلكه تركيا من معلومات، والمساعي الدولية الحثيثة لمعرفة مصير جثة خاشقجي، وسقوط سمعة ومصداقي المملكة.
في ضوء هذه التداعيات الخطيرة للأزمة على مصير محمد بن سلمان، لم يكن من قبيل الصدفة أن يقدم الصحفي الإسرائيلي تسيفي برئيل، في مقاله بصحيفة هآرتس المنشور في 18 أكتوبر الماضي بعنوان: "جثة خاشقجي تنتظر الدفن"، مقترحاً يرى فيه مخرجاً لتخفيف لهب النار عن كاهل ولي العهد، حيث أشار الكاتب إلى (ضرورة افتعال "كارثة كبرى" في منطقة الشرق الأوسط من شأنها أن تغطي إعلاميًا وسياسيًا على أزمة اغتيال خاشقجي كحل لإنقاذ محمد بن سلمان من محنته التي تهدد بقاءه في منصبه).
لا أدري بالضبط أين سيصل مسار التحقيق في النهاية؛ فالقضية تبدو معقدة ويلفها بعض الغموض في ظل المحاولات السعودية لطمس الحقائق، لكن ما أتمناه بالفعل هو أن تصل إدارة أردوغان الليل بالنهار لكشف جميع خيوط الجريمة، والوصول إلى جميع القتلة. لا نريد أن ينتهي الملف بصفقة دراماتيكية يعلو فيها صوت المصالح والحسابات السياسية الرخيصة لا قدر الله، وَتُقَيّد الجريمة ضد نصف معلوم أو نصف مجهول؛ فكلاهما لن يوصلنا إلى معرفة الحقيقة الكاملة لهذه الرواية المحزنة. أصر وبقوة أنه لا ينبغي أن يكون مصير دم جمال كذبة خلاقة أو تستر بارع ينزع الشوك من جسد محمد بن سلمان، ويخرج إسرائيل من دوامة الشك والقلق على مصير حليفها الجديد في الرياض.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.