ظنَّ النظام السعودي الذي لبس ثوب الإصلاح في أيامه الأخيرة، وأخذ يُجري تغييرات على الجوانب الترفيهية في البلاد، ليظهر بمظهر المصلح المنفتح الذي لم يمر على المملكة شبه له، ظنَّ أن جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي ستمرُّ بسلام كما مرَّ غيرها من الجرائم، ومن دون أن يوليها أحد اهتماماً كبيراً، وحينها ستتحقق لهذا النظام الكثير من المكاسب، ليس أولها بثُّ الرعب في قلوب معارضيه، حتى يحسب الواحد منهم ألف حساب قبل أن يفتح فمه لينطق بكلمة ينال بها النظام وسياساته وقمعه وغطرسته "فأيدينا ستصل إليك وتنال منك حتى لو كنت تتعلق بأستار الكعبة أو تتحصَّن في قنصلية أو سفارة محمية بموجب القوانين، أو لو طرت حتى إلى المريخ.. نحن لك بالمرصاد، فأغلِق فمك خيرٌ لك".
ولن يكون آخرها أيضاً إسكات خاشقجي، وإلى الأبد، خاصَّة بعد أن صعَّد من وتيرة انتقاداته لسياسات محمد بن سلمان ، التي وصلت حدَّ وصفه إياه بأنه زعيم قَبَلي من الطراز القديم، وليس إصلاحياً، وأن محمد بن سلمان يرى في الإصلاح تكبيلاً لحكمه الاستبدادي، وأن الديمقراطية والحريات غابت في المملكة العربية السعودية، بعد أن أصبح محمد بن سلمان هو الآمر الناهي فيها، وغيرها… وبالتالي فالنظام يضرب بجريمة مخرجة على طريقة أفلام هوليوود الأميركية، عصفورين بحجر واحد "كما يقولون".
ويطلُّ علينا ترمب بعد كل تطور بسيط على قضية خاشقجي، ليؤكد لنا تصديقه للرواية السعودية، أو شعوره بالسوء وعدم الرضا إن ثبت فعلاً قتلها للصحافي، وفي إحدى المرات صعَّد ترمب من وتيرة كلامه مهدداً بالغضب والعقوبات إن ثبت ضلوع السعودية في جريمة القتل، ليتراجع بعدها بساعات ويعود للهجته السابقة. ولننتبه هنا أن المصالح الاقتصادية وحجم المبالغ المدفوعة يلعبان دوراً كبيراً في ردَّة فعل رئيس الدولة الأقوى في العالم، وهو ما لم تفعله قيادات الأتراك.
ما وقف عائقاً أمام النظام الحاكم في المملكة العربية السعودية عن تحقيق أهدافه، وأن يجني ثمارها حلوةً كما يشتهي، هو أنه ارتكب جريمته على الأراضي التركية وليس في أي مكان آخر في العالم، وقد افترض مرتكبو الجريمة أن القنصلية السعودية في إسطنبول ستكون المكان الأمثل لإخفاء تفاصيل تلك الجريمة، التي ربما لن يلحظها أحد، وسيعود طاقم الإعدام بطائرتيه إلى قواعده سالماً، وسينتهي الأمر إلى هنا. ولم يتذكر مَن أمَرَ وخطَّط ونفَّذ هذه الجريمة أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن.
وأقول وبملء فمي: إن من يقف وراء تلك الجريمة يجهل الأتراك، ولا يعرف قيادتهم جيداً، فهم عنيدون جداً، لا يرعبهم تهديد، ولا يُخضعهم ترغيب، لا يتنازلون عمَّا يرونه صائباً ويقتنعون به، حتى لو واجهتهم صعاب جمّة، ووقفت دونهم التحديات، فهم يعملون بكل جهدهم ليل نهار حتى يذلّلوها ويصلوا إلى ما يريدون. وقضية قتل الصحافي جمال خاشقجي خير مثال على ذلك.
لم يستطع النظام السعودي شراء ذمة القيادة التركية مقابل ملايين، بل مليارات من الدولارات، رغم أن تركيا بالكاد تعافت من مشكلة تراجع قيمة الليرة التركية، بالإضافة لمشاكل أخرى داخلية تربكها، وهو ما يوحي لنا بأن تركيا بحاجة للدعم المادي، ولكن لعناد الأتراك المعروف لم يقبلوا بصفقات تبرئ ذمة النظام السعودي وتُنهي هذه الأزمة، وبالتالي تقبض تركيا بموجبها ما يدعمها ويعيد لها الراحة والهدوء.
لم تسلك تركيا في قضية خاشقجي سلوك بلغاريا في قضية عمر النايف، فكل منهما قُتل داخل سفارة بلاده، ولكن تركيا لم تُسلم بالرواية الرسمية للدولة التي ارتُكبت الجريمة في قنصليتها، وقامت بحملة تحقيق واسعة ودقيقة، ووظَّفت طواقم تحقيق وبحث على مستوى عالٍ من العلم والخبرة والدراية، توصّلت بموجب ذلك إلى كثير من المعلومات الدقيقة والحسّاسة، وصولاً إلى الحقيقة الساطعة التي لا مواربة فيها.
فكانت تركيا بذلك مثالاً للعدالة والشفافية، رفضت تركيا الضحك على عقول الناس، ورفضت الخداع، حتى وإن كان ثمن ما رفضته غالياً جداً، قد يُنقذها من أزمات اقتصادية هي في غنى عنها. لهذا ترى الحكومات العربية تكاد تُجمع على مقت تركيا، وبُغض التعامل معها، لأنها تسير في طريق مغاير لما تسير فيه الحكومات العربية.
وأقولها في نهاية مقالي: لو حدثت هذه الجريمة في مكان آخر في العالم لَمَا أخذت القضية أبعاداً كتلك التي أخذتها من حدوثها في تركيا، ولتمَّ التستر عليها والانتهاء منها في غضون أيام، وربما ساعات، ولَأُسدل الستار على جريمة قتل غامضة قُيِّدت ضدَّ مجهول.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.