من الصعب والسابق لأوانه استنتاج أمر مثل هذا، فأردوغان في موقف صعب وحساس، وتبعاته في حالة التسرع قد تكون مكلِّفة لتركيا واقتصادها، فأردوغان والأتراك كمن يمشي على البيض محاولاً الوصول لهدفه دون تكسير البيض!
ولهذا، تعامل الأتراك مع قضية مقتل خاشقجي، منذ البداية، من زاوية جنائية، ورفض المسؤولون السياسيون التفاعل مع الأمر، وفضَّلوا ترك القضية للبحث الجنائي، ورمي الكرة في مرمى السعوديين، لكن غباء السعوديين جعلهم يعتقدون أن الأتراك لا يعلمون الحقيقة؛ بل إنهم بدأوا في تحميل الأتراك مسؤولية اختفاء خاشقجي.
وهكذا بدأت لعبة التسريبات التركية مباشرة بعد حوار القنصل السعودي مع وكالة "رويترز"، وبعد حوار محمد بن سلمان مع "بلومبيرغ"، والذي صرح من خلاله بأن خاشقجي غادر القنصلية!
لذلك، عمل الأتراك على خلق رأي دولي ضد السعودية، وحشد الدعم الدولي ضدها، وتوريط الرئيس ترمب، الذي يعرف الأتراك أنه سيحاول الدفاع عن ولي العهد السعودي.
ولأن الأتراك يعلمون أن الفاعل الرئيسي والقادر على التأثير على آل سعود هو أميركا، فكانت أغلب تسريباتهم موجهة للصحف والقنوات الأميركية الكبرى.
وهو أمر نجح فيه الأتراك نجاحاً مذهلاً؛ لتصادُفه مع الصراع السياسي الطاحن بأميركا، ولأن السعودية أصبحت عدواً وخصماً للكثير من القوى الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى سمعتها السيئة على الصعيد الدولي؛ بسبب حرب اليمن وانتهاكات حقوق الإنسان بالمملكة.
من مصلحة تركيا إسقاط محمد بن سلمان، فهذا الأخير حوَّل العقيدة الخارجية للسعودية نحو مواجهة حركات الإسلام السياسي بمختلف روافدها، ونحو كل القوى الداعمة لحركية الربيع العربي، ولهذا تم حصار قطر، واعتقال كل سعودي مدافع عن الحرية، أو يشم صلته بالحركة الإسلامية، كما بدأ محمد بن سلمان في مهاجمة تركيا، حيث صنَّفها ضمن محور الشر، ودعَمَ الانقلاب العسكري في تركيا، وبدأ في دعم أكراد سوريا بالمال والسلاح، بل إن اختيار تركيا لتنفيذ عملية خاشقجي كان الهدف منها توريط تركيا وتحميلها مسؤولية اختفاء خاشقجي، وعوض أن تكون السعودية في موقع الاتهام ستتحول تركيا للمتهم الرئيسي في الاختفاء، وهو ما من شأنه بث الرعب في المعارضين الموجودين في تركيا، وتصوير هذه الأخيرة بمظهر الدولة المنفلتة أمنياً، مما قد تترب عنه تداعيات كبرى على السياحة التركية، وقد رأينا كيف بدأ المقربون من محمد بن سلمان في مطالبة السعوديين بعدم اختيار تركيا كوجهة سياحية.
وبالرغم من أن إسقاط محمد بن سلمان أصبح مطلباً حتى داخل فئات واسعة من الأسرة الملكية، فإن مطالبة أردوغان بالدعوة لإسقاط محمد بن سلمان أمر لا يستقيم، وفي كل الأحوال لا يقدر أردوغان على القيام به لأنه يتجاوزه، ولمعرفة أردوغان أن أي مطلب مثل هذا قد يدفع العلاقات السعودية- التركية نحو الحافة، خاصة في حال استمرار محمد بن سلمان في منصبه، أو عند استبداله بأحد إخوته كما يروَّج في الصحافة الغربية.
لكن المطلوب من أردوغان هو إرجاع الملف لسكّته الحقيقية وهي الطبيعة الجنائية، وإعلان ما تتوفر عليه سلطات التحقيق التركية من معلومات، وترك التقدير السياسي للمجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة التي تبقى الفاعل الرئيسي في الملف.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.