كان مقتل خاشقجي الصحافي السعودي البارز داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول، كشف النقاب عن الاستبداد القبيح وراء الصورة الإصلاحية المزعومة لوليّ عهد المملكة محمد بن سلمان. ومع ذلك، فإن ما لُوحظ من ذلك هو الطريقة التي كشفت بها هذه الفضيحة عن التنافس والصراع الذي طال أمده وأدى إلى الخلافات التركية السعودية .
أساس التنافس الأول بين البلدين هو كيفية قراءة الإسلام، وبالتحديد الإسلام السنّي، وهذا أمر لاحظه غير المسلمين قبل المسلمين أنفسهم، ولهذا بدأت تتعالى أصوات تقول إن السعودية بدأت تفقد مكانتها الدينية بين الشعوب العربية، منذ أن اعتلى هذا الأمير الأهوج مقاليد الحكم، فقد هزّ صورة المملكة الدينية باعتقالاته ضد الفقهاء الوهابيين، وتحجيمه سلطات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المعروف، ومخالفته فتاوى العلماء، وتراجع شعبية هيئة كبار العلماء التي كانت لعقود طويلة عبارة عن عصا تدجّل بها السعودية على الكثير من البلدان العربية.
تحاول تركيا أردوغان تسويق نفسها كصاحبة الإسلام المعتدل والحديث، ويبدو اليوم أن الفصل بين مَنْ يمثل الإسلام المعتدل وغير المعتدل ليس سهلاً، من المسلم به أننا في نقطة قاتمة جداً في الديمقراطية التركية، كان "النموذج التركي" الذي كان حزب أردوغان يمثله في بداية هذا القرن مصدر إلهام للعديد من المسلمين، كمزيج للإسلام بالديمقراطية الليبرالية. لكن خلال السنوات الخمس الماضية انهار هذا النموذج بشكل كبير، بسبب بعض ممارسات الحكومة التركية.
مع ذلك، فإن أردوغان ورفاقه الإسلاميين لا يزالون بالمقارنة مع النخب السعودية أكثر انفتاحاً، فهم لا يزالون يعملون في إطار أكثر حداثة يعكس تفسيرات أكثر اعتدالاً للإسلام السني. وهذا يلقي الضوء على الخلافات السياسية الكبرى التي نشأت بين أنقرة والرياض.
أسباب الخلاف بين الدولتين كثيرة، في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، وفي المنطقة الوسطى الأكثر انعزالاً في شبه الجزيرة العربية المسماة نجد، ظهر عالم يدعى محمد بن عبدالوهاب بدعوة متطرفة لاستعادة ما يراه "الإسلام الحقيقي". ولم يفعل أكثر من إعادة إحياء منهج الحنابلة في قراءة الإسلام، أكبر ميزة فيه الشغف بمهاجمة الجميع مسلمين وغير مسلمين، فنجد تركيز هذا المذهب على تكفير الشيعة وأيضاً التعرُّض للسُّنة من المذهب الحنفي الذي هو مذهب العثمانيين.
وسرعان ما تحالف محمد بن عبدالوهاب مع زعيم يدعى ابن سعود، مؤسس الأسرة السعودية. وبهذا التحالف نمت الدولة السعودية الأولى من حيث الحجم والطموح، وهذا بسبب طبيعة تعاليم الوهابية التي تميزت بعسكرة الدين والتشدد فيه، ما أدى إلى مجزرة كبيرة ضد الشيعة في كربلاء في عام 1801 واحتلال مكة في 1803. لكن عاد العثمانيون وسحقوا الثورة الوهابية في عام 1812
من خلال حمايتهم في مصر، وتراجعت الوهابية إلى الصحراء.
وحدث ضجيج آخر في الحجاز عام 1856 عندما قدم العثمانيون، بفضل تأثير حلفائهم البريطانيين، "ابتكاراً" هرطقياً آخر حسب الرؤية الوهابية: حظر تجارة الرقيق، التي كانت آنذاك تجارة مربحة بين الساحل الإفريقي ومدينة جدة العربية. بناءً على طلب من التجار العبيد الغاضبين، أعلن الشريف عبدالمطلب من مكة أن الأتراك قد أصبحوا كفاراً ودماءهم كانت حلال. بينما نتعلم من أحداث رجل الدولة العثماني أحمد سيفديت باشا، كانت خطايا تركيا تشمل "السماح للنساء بالكشف عن أجسادهن، والبقاء منفصلين عن آبائهن أو أزواجهن، والحصول على الحق في الطلاق".
استعدت بطريقة خفيفة أحد أهم فصول الصراع في التاريخ بين الأتراك والسعوديين، لأن على ما يبدو أن الصحافة السعودية وإعلامها بدأ ينزل إلى مستوى رعاع تويتر في طريقة التعامل مع كل أزمة تواجهها المملكة، فبدأت هذه "الصحافة" بالحديث عن مجازر العثمانيين بحق السعوديين وتصوير أردوغان على أنه خليفة عثماني يتآمر على السعودية ويريد استعادة مجد أجداده، ولا
نعرف لماذا لم تتحدث هذه الصحافة عن هذه المجازر وهذه الأطماع قبل الخلاف مع تركيا، خاصة أيام تداعي الديكتاتوريات العربية في مصر وليبيا وتونس، ولم تكشف خفايا سياسات أردوغان واستغلاله الإسلام والتاريخ الإسلامي لتمرير مصالحه، حتى ظهر أتباع لأردوغان في العالم العربي يدافعون عن مصالح أردوغان أكثر من مصالحه بلدهم، فقبل الخلاف كانت العلاقات السعودية التركية
سمن على عسل وكل شيء تمام يا أفندم، واليوم تذكر السعوديون المجازر العثمانية وسياسات التتريك في الحجاز.
الخلاف الثاني بين أنقرة والرياض هو حول جماعة الإخوان وطريقة التعامل معهم. الرياض تدين الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، وهذا لسبب سياسي وليس لطبيعة أفكار هذه الجماعة، فدعمت الانقلاب العسكري الوحشي في مصر ضدها في عام 2013.
أنقرة، من ناحية أخرى، أدانت الانقلاب واحتضنت الكثير من القيادات الإخوانية البارزة، ما جعل إسطنبول العاصمة الجديدة للمعارضين العرب، لاسيما أولئك الذين تحالفوا مع الإخوان. واليوم بعد قتل جمال خاشقجي في إسطنبول، سارع من يسير في فلك آل سعود إلى القول إن إسطنبول مدينة غير آمنة وهذا هو سبب قتل خاشقجي! ولو أننا لو نواصل بنفس المنطق، فإن لندن أيضاً مدينة غير آمنة فهي شهدت عدة عمليات إرهابية، ونيويورك أيضاً مدينة غير آمنة لأنها شهدت تفجيرات 11 سبتمبر التي كان أبطالها أشخاص ذو جنسية سعودية! القلق الحقيقي للمملكة العربية السعودية مع جماعة الإخوان المسلمين هو أمر سياسي، أي أن أي حركة إسلامية شعبية لا تعترف بالطاعة المطلقة لآل سعود هي جماعة تخريبية. لذا، يجب أن يتم سحقهم بالقوة.
الخلاف الثالث هو طريقة التعامل مع إيران، في حين أن إيران وتركيا تختلفان حول عدد من التطورات الإقليمية، لاسيما حول الحرب الأهلية السورية التي يدعمان فيها الأطراف المتنازعة، دون نسيان ملف الأكراد الذي أدى إلى تقارب كبير بين البلدين بحيث يتّفقان على أن انفصال الأكراد هو من سابع المستحيلات، فإن البلدين تربطهما علاقات اقتصادية عميقة. أي صراع بين السعودية وتركيا يمكن أن يسمح لمزيد من العلاقات بين أنقرة.
أود أن أشير إلى نقطة مهمة، وهو الشيء الطريف في الموضوع، وهو أنه في حين تندد السعودية بسياسات إيران، وتصف النظام هناك بالإرهابي، نجد أن السعودية أيضاً تكرر نفس ممارسات إيران الإرهابية، هذه الأخيرة معروفة بشكل أفضل بسجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان كالسعودية، فهي تعدم المثليين وتعتقل المعارضين وتضطهد الأقليات، ودعمها لبشار الأسد في الحرب الأهلية السورية، ويُزعم أنها ترسل فرق اغتيالات لقتل المعارضين في الخارج، الولايات المتحدة مشكلتها ليست هنا، بل مشكلتها في إصرار إيران على المواجهة واتخاذ خطوات يراها الغرب غير مقبولة تماماً.
نموذج الإصلاح المناسب للمملكة العربية السعودية أراه من الملكيات الدستورية المعقولة في المنطقة، مثل الأردن والمغرب، وهي أكثر حرية من معظم الدول العربية الأخرى. يجب على وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي لا نعلم إن كان سيستمر في الحكم أم لا، والذي حاول على ما يبدو سحر الغرب بإصلاحاته الشعبية، مثل السماح للنساء بقيادة السيارات، أن يفهم أن الحداثة لا
تتعلق بالتغييرات الاجتماعية التجميلية فحسب، إن السماح للنساء بالقيادة، وإنشاء ما يسمى "هيئة الترفيه"، هذه ليست بإصلاحات حقيقية، هذه حقوق طبيعية، الإصلاحات الحقيقية هي السماح بصحافة حرة، وعدم الخلط بين انتقاد الحاكم والخيانة، وإنشاء مؤسسات رقابية، لا يمكن للسعودية أن تمارس الحداثة وهي تسمح بنشر بعض صنوف الجهل بين شعبها، يجب إشاعة الحريات لتنتقل المعلومة كما هي دون تزييف، ولا يمكن أن تتحدث عن الحداثة مع شعب ما زال يؤمن أن الشيخ هو القائد والزعيم، يجب لكي تقر الحداثة بتطبيق أصولها كالمواطنة وحقوق الإنسان.. وليس بقتل صحافي لمجرد مطالبته بالإصلاح وبنبرة ليس فيها أي معارضة للسلطة السعودية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.