نعيش على قاعدة أن لكل قاعدة استثناء أو بالمفهوم الآخر "شواذ"، وبعد أن حاول العالم بقوانينه الدولية أن يؤصل ثقافة أن السفارات الدولية مكان آمن يجب أن يتمتع الداخل إليها بحصانة الحفاظ على حياته، تمرّ علينا تفاصيل دقيقة حول تنفيذ حكم القتل ضد الصحفي السعودي جمال خاشقجي في سفارة بلاده في اسطنبول التركية، وليست هذه الحادثة الأولى من هذا النوع، إنما سبقها حادثة اغتيال المقاوم الفلسطيني عُمر النايف، والذي قُتل في سفارة بلاده في بلغاريا، وحتى اليوم لم تُنصفه التحقيقات الدولية، وتكشف تفاصيل الاغتيال ومنفذ الجريمة، ولكن السبب لا مجال للمراوغة فيه.
وقوفاً على حجم تسليط الضوء على قضية خاشقجي من قبل الإعلام غير المحسوب على السعودية أو بالأحرى غير الموالٍ لها، فإنه يمكن القول بأن الرأي العام الدولي اليوم يسأل ذاته "كيف ولماذا قُتل خاشقجي؟" هذه الأسئلة لن تكشف عنها إلا الأيام وتفاصيل دقيقة سيأتي زمان عليها وتتكشف، فيما ستظل الرواية الرسمية السعودية كما هي "قُتل بالخطأ أثناء التحقيق"، لتفتح هذه الرواية الباب أباب سؤال ملحّ وهو ماذا يُقصد بالتحقيق الذي تصل نهايته الى القتل؟ ما أساليبه؟ كيف يتم؟ ألهذا القدر حجم مأساته حتى ينهي حياة إنسان! ربما كان من المنطقي على السعودية أن تقول "قتلناه ولنا أسبابنا" أفضل من تعليقها الغبي على الحادثة، تماماً كغباء مّن نفذ الجريمة، تالله إن الاحتلال الإسرائيلي ليخشى أن يصرّح بعد استشهاد أحد الأسرى الفلسطينيين في سجونه بأنه قتل تحت التعذيب، يداري جريمته ويلتف عليها لأن القانون الدولي ما زال يحميه ولأن سفارات بلادنا في العالم لا تطالبه بتحقيقات ولا تتقدم للجناية الدولية لمحاسبته، فهل السعودة باتت أوقح من "إسرائيل"؟.
ثم السؤال الآخر الذي يطرق الأذهان، هل القنصلية باتت سجن تحقيق للأفراد الداخلين إليها وغير المرضيّ عنهم من قبل سلطات بلادهم ؟!، هل باتت مسالخ الموت المحتم لكل صوت معارض مهما كانت معارضته ومهما بلغت حجمها، هل يجب ان يتحول تعريف السفارات من تمثيل دولي بين دول العالم أم سجون تعذيب وأماكن قتل؟ هل هذه الحوادث استثناء أو شواذ في عالم بات حكه عبر أداة القتل والدكتاتورية المقيتة التي تصل الى مرحلة قتل صحفي في سفارة بلاده، عبر مناشير تقطيع وموسيقى! الى أين نتجه، إلى أي مرحلة وصلنا؟
والإجابة الوحيدة على كل هذا وصمتنا الذي تُرجم على أنه قبول بالأمر الواقع. المثير للاشمئزاز في تلك القضايا أن التحقيقات العائلية التي رافقت قضية اغتيال النايف وخاشقجي حتى اليوم، تبرهن أن شخوص من المؤسسات العسكرية لذات الوطن الذي ينتمي إليه كلاهما، هي مَن نفذت الاغتيال ضدهم، ما يعني أن الأعداء الكبار كانت يدهم في الخفاء، بينما نفذ الجرائم أعداء من بيننا، من جلدنا، هم يوماً ما كانوا يهتفون باسم أوطاننا معنا!
عتبي على خاشقجي إن كان يحق لي العتب على ميّت أنه كان صحفي وبالتأكيد علم بقضية اغتيال المقاوم الفلسطيني عمر النايف في سفارة بلاده في بلغاريا قبل عام ونيّف، لماذا لم يتعلم خاشقجي الدرس وأدرك أن السفارات كبلادنا مستباحة، وأن السفارات لا أمان فيها تماماً ككل ركن وزاوية في بلادنا لا أمان فيها، إنما محشوّة بالموت، معبأة برائحة الخيانة والغدر، لا حقيقة فيها سوى أن الموت يلاحقنا، ولا حق فيها ظاهر إلا بعد فوات الأوان، فعمر النايف لم تظهر التحقيقات تفاصيل اغتياله كما لن تظهر اغتيال خاشقجي، وستكتفي الأمم المتحدة بالاستنكار وابداء القلق من حجم ما وصل اليه حال الدكتاتورية العربية، فالدرس المستفاد "إن كنتَ معارضاً لحكومة بلادك أو مقاتلاً شرساً ضد أعدائك، لا تأمن على نفسك السفارات".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.