كان في إمكان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن يستمر في توطيد مشروعه السياسي، بعد أن تمكن من إقصاء أبرز منافسيه من الأمراء داخل العائلة المالكة، في ظل توليه لمقاليد الحكم فعليا واعتماد العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز عليه في تسيير دفة الحكم في البلاد، إلا أن الرغبة الجامحة في الاستحواذ على السلطة بشكل كامل أعمته عن فهم وتقدير السياقات السياسية الدولية المرتبطة بعلاقات بلاده بدول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
فرغم حرص الدول الغربية على تحقيق مصالحها في بلدان العالم الثالث ومتاجرتها بمعاناة شعوبها، وغم تفريطها في المبادئ والقيم الكونية في كل مرة تتصادم مع مصالحها وأهدافها الاستراتيجية، إلا أنها تحتفظ بالحد الأدنى من الخطاب الإنساني والأخلاقي الأممي القائم على احترام حقوق الإنسان والحريات الشخصية، لأجل إضفاء نوع من الشرعية الأخلاقية على وجودها وعلى هيمنته وتصدرها للعالم.
سوء فهم بن سلمان للسياقات الدولية المرتبطة بعلاقات بلاده بدول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ينضاف إلى عجز بن سلمان عن التعامل مع السياق الزمني المتعلق بفترات الانتخابات التي تجري فيها، باعتبار العلاقات والشراكات الاستراتيجية تجمعها بالمملكة السعودية، كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي تعيش في الفترة الحالية على وقع الحملة الخاصة بالانتخابات النصفية لاختيار أعضاء الكونغرس الأمريكي، حيث يستحضر السياسيون كل ما من شأنه أن يورط خصومهم السياسيين الذين ليس الرئيس دونالد ترامب سوى أحدهم.
عجز مسجل أيضا على مستوى قراءة وتقدير للعلاقات المتشعبة والمتشابكة التي تجمع إحدى أهم القوى الإقليمية في الشرق الأوسط بالغرب، وبالولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، والمتمثلة في دولة تركيا التي ظن ابن سلمان ربما أن مجرد توتر عابر للعلاقات في ما بين قيادتها وبين ترامب سيكفل له انتهاك الأعراف الدبلوماسية المرتبطة بالعلاقة معها، عبر توظيف البعثة الدبلوماسية السعودية في اسطنبول لتنفيذ مخطط جريمة إخفاء وتصفية خاشقجي داخلها بحسب ما تشير إلى ذلك التقارير الأمنية والتصريحات الرسمية.
اعتبارات سياسية لا تخفى على عين متابع، كان بإمكان ابن سلمان أن يأخذها أو يأخذ بعضها في عين الاعتبار، لو لا اندفاعه الكبير لضمان استحواذه على السلطة الظاهر من خلال ممارسته للحكم، منذ مبايعة سلمان بن عبد العزيز ملكا، فالتقارير الصحفية تتحدث عن مباشرته لإجراءات عزل وتصفية منافسيه والمسئولين المحسوبين عليهم مباشرة بعد استلام أبيه لزمام الأمور، فلم يُقَرِّب بعض العناصر من العائلة المالكة سوى لتوظيفها بهدف إقصاء عناصر أخرى، قبل أن يُقصِيَ جميع الأمراء المنافسين، فضلا عن المسئولين والمستثمرين والشخصيات العامة المحسوبة عليهم، لينفرد في نهاية المطاف بالحكم وبكافة أدواته من أجهزة أمنية واستثمار وإعلام.
رغبة ملحة وسعي حثيث للسيطرة على مقاليد الحكم في ظل نظام سياسي شديد التعقيد، يتداخل فيه الأسري والدعوي بالسياسي والاقتصادي، أفضت إلى تبنيه سياسيات متعارضة مع ما دأب عليه ملوك وقادة المملكة منذ تأسيسها، ودفعته إلى التحالف مع حكام الإمارات ومصر الذين يخوضون العديد من الصراعات ضد قوى إقليمية هامة، ترتب عنه انخراطه الكامل في تحالف إقليمي ضد "الإسلام السياسي" الذي تدين له الدولة السعودية بالفضل في نشأتها واستمرارها إلى اليوم.
إجراءات إصلاحية عديدة سيتبناها بن سلمان لتوطيد أركان حكمه، أبرزها السماح للسماح للنساء بالقيادة، وتقليم أظافر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تأسيس هيأة للترفيه عكفت على تنظيم مجموعة من التظاهرات، لكنها إصلاحات لم تصل إلى مناقشة طبيعة نظام الحكم فضلا عن مواضيع الحريات الأساسية و التمثيل السياسي للشعب السعودي، بل على العكس من ذلك رافقها قمع وتضييق مشدد على الحريات العامة، واستهداف للنشطاء الحداثيين والاصلاحيين، والدعاة المعروفين بتبنيهم للخطاب الوسطي المعتدل، فضلا عن الأمراء ورجال الأعمال المناوئين له، في ظل إجراءات لم يسلم منها النشطاء الذين ناضلوا لأجل تلك تحقيق تلك الإصلاحات التي تم تبنيها من طرف النظام.
مسار حثيث سيتوج مؤخرا بتصفية الإعلامي السعودي البارز جمال خاشقجي داخل قنصلية السعودية في اسطنبول، في خطوة يبدو أن بن سلمان كان يعول على شركائه الأمريكيين لتمريرها، في ظل حلف المصالح الذي يجمعه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكن القيادة التركية استطاعت بإدارتها الاحترافية للأزمة، من خلال توظيف التصريحات الرسمية والتسريبات الإعلامية المتحكم فيها والاتصالات بالعديد من مسئولي الدول الغربية أن تشدد الخناق على بن سلمان الذي بات تورطه في الجريمة مثار شبهات، خاصة بعد الاعتراف الرسمي السعودي بتورط عناصر سعودية في قتل خاشقجي، والاعلان عن إيقافهم من طرف النائب العام على ذمة القضية، ثم الكشف عن النية المبيتة في تهديده واختطافه، بعد تواتر الدلائل الحسية والقرائن المشيرة إلى مشاركة مسؤولين وعناصر أمنية مقربة من محمد بن سلمان في تنفيذ الجريمة، وعلى تلقيهم لتعليمات من طرفه شخصيا بخصوصها، بحسب تسريبات صحفية.
فالجريمة المتمثلة في تصفية خاشقجي بهذا الشكل الفج الذي تابع تفاصيله العالم أجمع، رغم بساطتها قياسا لجرائم الأنظمة العربية الديكتاتورية التي لا تعد ولا تحصى في حق شعوبها، إلا أنها كانت كفيلة بقلب الدوائر الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العديد من الدول الغربية لظهر المجن لمحمد بن سلمان، وهو الذي لطالما اعتمد على علاقاته وعلاقات حليفه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد بالشخصيات السياسية النافذة القريبة دوائر السلطة في البيت الأبيض، وبالأخص بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبصهره جاريد كوشنر، ومن ورائهما اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن حلفاء بن سلمان وبن زايد في واشنطن وقفوا عاجزين عن الدفاع عنه، في ظل تبني مختلف وسائل الاعلام الأمريكية لقضية خاشقجي، بما فيها تلك المحسوبة على اليمين، والمقربة من ترامب، بالإضافة إلى توالي التصريحات المُدِينة للنظام السعودي والمُطَالِبَة بوقف التعامل معه وحظر تصدير السلاح إليه، فضلا عن الاتهامات المعبر عنها لبن سلمان بعدم إبداء التعاون اللازم بخصوص الكشف عن التفاصيل المتعلقة بجريمة إخفاء وقتل خاشقجي.
ضغوط دفعت بمحمد بن سلمان إلى محاولة التملص من الجريمة النكراء المتمثلة في تصفية الناشط جمال خاشقجي، ما اضطره إلى التبرؤ من العناصر المحسوبة عليه من المسئولين والأمنيين المقربين منه، وتقديمهم كأكباش فداء لتبرئة ساحته، لكنها إجراءات لن تنجح في تبرئة ذمة المسئولين الكبار الذين يفترض أنهم أعطوا التعليمات بتنفيذ جريمة تصفية خاشقجي، وعلى رأسهم محمد بن سلمان، حيث توالت التصريحات الصادرة عن المسئولين الغربيين والأتراك، والتي تشكك في الرواية السعودية الرسمية، وتطالب بالكشف عن المزيد من التفاصيل المتعلقة بالموضوع، لا سيما مصير جثة خاشقجي.
تطورات جعلت من بن سلمان مُحَاصَرا بعد أن كان هو المُحَاصِر لخصومه السياسيين في داخل السعودية وخارجها، بالتزامن مع صدور مجموعة من المواقف الرسمية الدولية المُعَبَّرِ عنها على نطاق واسع في العديد من دول العالم، والمُطَالِبَة بتجميد الزيارات الرسمية إلى السعودية، وكذا منع تصدير السلاح لها، فضلا عن الدعوات التي ينخرط فيها العديد من المشاهير والشخصيات العامة المطالبة بمقاطعة الأنشطة السياسية والاقتصادية التي تعتزم السعودية تنظيمها بهدف جلب الاستثمارات وتحسين صورة بن سلمان لدى الغرب.
وَضعٌ سياسيٌ حرجٌ بات يعيشُ على وقعه النظام السعودي، وتَعثرٌ واضحٌ لمخططات بن سلمان التي دشنها منذ سنوات، والتي تستهدف ترسيخ صورته كمصلح ورجل إنجازات واعد، خاصة في ظل التطورات الخطيرة لا تزال تعيش على وقعها السعودية، والمتعلقة بمجموعة من القرارات المتهورة، كالحرب على اليمن، وحصار قطر، بالإضافة إلى التورط في دعم الانقلابات وتقويض الأمن والاستقرار في مجموعة من دول المنطقة، فضلا عن مواجهة تيارات فكرية وسياسية مدنية واسعة الانتشار، وكذا برامج الإصلاحات المرتجلة والغير مدروسة التي دشنها في البلاد والتي شملت مختلف مناحي الحياة، وتضمنت قرارات غير شعبية كسن المزيد من الضرائب والتضييق على المستثمرين.
مسار متعثر لبن سلمان منذ اعتلاء والده لسدة الحكم، سيقوض سعيه الدؤوب للسيطرة على مقاليد الحكم في المملكة، يبدو أن قضية تصفية جمال خاشقجي ستكون فيه بمثابة القشة التي ستقسم ظهر البعير، في ظل التحليلات و الأنباء الواردة حول تحفظ الدوائر الرسمية الأمريكية على توليه لشؤون الحكم، بالإضافة إلى تسريبات بخصوص انعقاد اجتماع لهيئة البيعة الخاصة بالعائلة المالكة في السعودية لاختيار أحد الأمراء لتولي منصب وليَّ ولي العهد، فضلا عن التصريحات المتحفظة حول سياسات بن سلمان، والصادرة في أوقات سابقة عن شخصية وازنة في العائلة المالكة، وفي مقدمتها التصريح الصادر عن الأمير أحمد بن عبد العزيز، المرشح بقوة ليكون بديلا لمحمد بن سلمان بحسب العديد من المراقبين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.