خاشقجي: من يتنازل عن القدس يتنازل عن الحرمين

عدد القراءات
3,250
عربي بوست
تم النشر: 2018/10/23 الساعة 10:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/26 الساعة 09:27 بتوقيت غرينتش

يقول جمال خاشقجي رحمه الله: "من يتنازل عن القدس.. يتنازل عن الحرمين"، جملة صحيحة التركيب يطلقها المغدور ويرى فيها أساس الشرعية والحكم في المملكة التي تضج اليوم بسياسيين ومفكرين من الحظيرة الجامية المدخلية والليبرالية المبتسرة الأقدار والأوزان بدعواتهم المستميتة للتطبيع مع العدو الصهيوني، وقبول عضوية الدولة العبرية في البيئة العربية دون قيود، والعمل على تسويق ذلك للجماهير العربية من بوابة الحداثة والسلم الإقليمي، ومواجهة الخطر الإيراني المفترض.

كانت هذه الكلمات الخطيرة لخاشقجي من وجهة نظر الحكام الجدد للمملكة بمثابة حالة من التمرد والعصيان والتحريض على الخط السلماني الناشئ الذي يقوده ولي العهد محمد بن سلمان الوافد إلى المشهد السياسي بأفكار التحديث والتنوير، وحسم ملف القضية الفلسطينية بصفقة تجارية أكثر منها سياسية تقدم الأراضي والمصير الفلسطيني للمحتل بالمجان.

بالنسبة لترامب لا ضامن لبقاء محمد بن سلمان على كرسي الحكم سوى أمرين لا ثالث ولا معقب لهما: أما الأمر الأول فيتمثل بموافقة المملكة العربية السعودية – زعيمة العالم السني – على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وفرض وقائع جديدة أمام الشعب الفلسطيني، وثانيها تسديد فاتورة الحماية العسكرية للولايات المتحدة التي يرى رئيسها أن البقرة لا بد أن تدر المزيد من اللبن؛ لمواجهة الأزمات الاقتصادية والبطالة المتزايدة في بلاده، وتحقيق بعض الوعودات التي قطعها على نفسه أثناء حملته الانتخابية؛ فالولايات المتحدة لا يعنيها كثيراً الفقاعات الإصلاحية الباردة التي يقوم بها ولي العهد الجديد، ويرقص لها طرباً بعض المغفلين طالما أنه ملتزم بتسديد الفاتورة بالكامل، وراغب في التقارب مع إسرائيل، وقادر على الإمساك بزمام الوضع في الداخل.

لكن لماذا يغضب بيت الحكم السعودي من موقف الكاتب الصحفي المغدور جمال خاشقجي بمطالبته الأسرة الحاكمة في السعودية بإعلان موقفها الواضح من القدس وربطه بين التزام المملكة بالقدس وهويتها الإسلامية من ناحية وشرعية العرش من ناحية أخرى؟ ألا تُصَدِرْ المملكة السعودية نفسها بزعيمة العالم الإسلامي عموماً والمذهب السني على وجه الخصوص؟ ألا يُعَرِفْ رأس الهرم في المملكة نفسه بخادم الحرمين الشريفين؟

المدخل الحقيقي لفهم الحقيقة المرة التي لا تستطيع الأسرة المالكة اجترارها يتعلق برزمة من المواقف السياسية التي قام المغدور بعرض الكثير منها في برنامج "بلا حدود" على قناة الجزيرة، حيث قال: (إن الغرام الإسرائيلي السعودي سيعود على المملكة بالوبال، مضيفاً أن على المملكة التي تصف نفسها بالدولة الإسلامية بثقافتها الاحيائية المستمدة من روح محمد بن عبد الوهاب أن تستيقظ من كبوتها، وتكون في الخندق الداعم لقضايا الأمة).

بيد أن الجزء الآخر من الحقيقة التي لم يتطرق إليها المغدور هو أن المدرسة الدينية في المملكة قد تكلست من دعوة عالمية تنشر الفكر الإسلامي الوسطي، وترسم خطوط العلاقة الصحيحة بين الحاكم والمحكومين، وتتصدى لهموم وغموم الأمة إلى كيان سياسي حاكمي التوجه يؤله سلطة وسطوة ولي الأمر المتغلب، وَيُكَفِّرُ وَيُفَسِّقُ من ينازعه في مقامه وموقعه أو ينابذه في سلطانه ولو رأى ولي الأمر أن يقتل ثلث الشعب ليسلم البقية لأذن له الشارع الإسلامي فعل ذلك؛ فالعصمة المطلقة للإمام المتغلب مهما ارتكب من موبقات وفواحش حتى لو كان يزني نصف ساعة كل يوم على الهواء مباشرة كما يقول أحد كبار رموزهم.

ماذا يعني أن يكتب المفكر السعودي "أحمد الفراج" مقالة بعنوان: "لك العتبى يا "نتنياهو" حتى ترضى ولم ينبس أي عالم من علماء الجامية ببنت شفة؟ كيف يفسر أبناء المدرسة الجامية قول الخبير السعودي الشهير "عبد الحميد حكيم": (أن القدس رمز ديني لليهود كمكة والمدينة بالنسبة للمسلمين)؟! ماذا يقصد الشيخ "عبد الرحمن السديس" إمام الحرم المكي بقوله: (إن الولايات المتحدة والمملكة يقودان العالم والإنسانية إلى مرافئ الأمن والسلام)!؟

لا حاجة لنا لنعي خاشقجي وإن استحق منا ذلك فقد غادر الدنيا وهو على جادة الحق، ودفع حياته من أجل قلمه، وقاوم المارقين لتنتصر الحقيقة لكن العزاء وكل العزاء لجوقة الطغاة المتألهين ومن خلفهم من الذباب والأشباح الذين فتحوا عيون العدو والصديق على أفعالهم الشنعاء وهبطوا بسمعة وتاريخ بلادهم إلى أسفل السافلين.

للإنصاف لم يكن شعار: (من يتنازل عن القدس…يتنازل عن الحرمين) توجهاً حصرياً لخاشقجي وحده وإن كان هو أول من جاهر به على الملأ بل لسان حال الآلاف من الدعاة والمثقفين والمفكرين الذين زَجَ بهم ولي العهد في غياهب السجون بذريعة محاربة الفساد، وكبح جماح التطرف، وإطلاق العنان لمشاريع النهضة الكبرى التي لم نرَ منها على أرض الواقع سوى الجعجعة الإعلامية والتفحيط السياسي والهذيان الاستراتيجي. ليس بوسع السعودية كما هو الحال بالنسبة لمصر إنكار الحقيقة المرة أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ما كان ليحدث لولا موافقة حكام القاهرة والرياض على ذلك، ولعل هذا ما ذهبت إليه الكثير من الصحف العبرية والدولية، ولم تتحرك العواصم العربية وجامعة العرب جدياً للتصدي لهذا القرار الأمريكي المنفرد، وتنفي عن نفسها شبهة تورطها في القضية.

ومع أن خاشقجي كان لبقاً ومتوازناً وحريصاً على نشر الديموقراطية، وحرية الرأي والتعبير، ومحاربة الفساد، ورفع الوصاية الأمنية عن الصحافة، وعدم التفرد في القرار إلا أن قرار وأسلوب التخلص منه كان فظيعاً ومفجعاً؛ فالرجل لم يقدح في أعراض الأسرة الحاكمة، ولم يكن متطرفاً في فكره ومنهجه، ولم يكن قريباً بـأي حال من جماعة الإخوان المسلمين العدو الوجودي للمملكة بل على العكس تماماً حافظ على اعتداله في النقد، وحاول أحياناً نفي بعض وقائع التعذيب في المملكة، وراهن على نجاح محمد بن سلمان في مسيرته الحداثية رغم ما يعتريها من أخطاء فادحة وانتقائية لا تخطئها العين.

بأي ذنب يقطع جسد كاتب صحفي أعزل على أنغام الموسيقى بمجرد أنه أعلن موقفه الرافض لسياسة المملكة بالتطبيع والتنازل عن القضية الفلسطينية، وانتقاده سياسة بلاده المتواطئة مع قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارته إلى القدس، ودعوته ولي العهد الجديد للتصالح مع قطر ورأب الصدع بين الأشقاء؟! لا أعتقد أن الفطرة البشرية السليمة يمكنها أن تقبل هذا الانحدار الرهيب للضمير الإنساني والحس الأخلاقي حتى لو كان الخصم عميلاً أو فاجراً أو عدواً للوطن.

لعل أقبح ما حملته رياح الثورة المضادة في العالم العربي هو هذا السلوك الوحشي الذي هبط بقيمنا الإنسانية النبيلة إلى درك الأنعام والبهائم التي تذبح بعضها على صيد هنا وجيفة هناك إلى أن يأتي دور ملك الغابة في النهاية ويبرز أنيابه فتلوذ البهائم بالفرار! من حق الأجيال أن ترى نهاية وشيكة للصراعات المذهبية والسياسية والدينية التي مزقت المجتمع العربي وفتحت أرضه وبحره وسماءه للمزيد من التبيعة والوصاية الأجنبية التي لن تقدم لنا سوى التخلف والبؤس.

ما يؤرقنا ويقض مضاجعنا في عالمنا العربي هو هذه الدرجة من الدكتاتورية والتصفية على الهوية والقتل الممنهج لكلمة نقولها هنا أو موقف نجأر به هناك! من العدل أن نسأل بعد كل هذا الصخب والضجيج أين قبر جمال؟ هل كانت آلة القتل المجاني رؤوفة بهذا الغائب في جمهورية "القتل الرحيم"!! من يحمل منشار الحقيقة يا ترى؟

 

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

معاذ الحاج أحمد
كاتب وباحث في التسويق السياسي
تحميل المزيد