بعد مضي 17 يوماً على اختفاء الصحافي السعودي المقيم في الولايات المتحدة، جمال خاشقجي، أكدت السلطات في الرياض أخيراً مقتله. ووفقاً للرواية السعودية لما حدث، فقد لقي خاشقجي مصرعه إثر مشاجرة بالأيدي مع عددٍ من الرجال في قنصلية المملكة في إسطنبول. وقد أعلنت السلطات اعتقال ثمانية عشر مواطناً سعودياً، إلى جانب إقالة عدد من كبار المسؤولين، من بينهم مستشار لولي العهد محمد بن سلمان.
لا تقل أهمية الثغرات الموجودة في هذه القصة عن أهمية الإعلان نفسه.
لم تكشف السلطات السعودية عن مكان جثة خاشقجي، ما يضفي مصداقيةً على الرواية التي نُسبت إلى المسؤولين الأتراك على مدار الأسبوعين الماضيين. إذ أشارت السلطات التركية – حتى قبل أن يُسمح لها بتفتيش القنصلية ومقر إقامة القنصل العام – إلى أن خاشقجي قُتل وقُطعت أوصاله داخل القنصلية. وقد توصلوا إلى هذا الاستنتاج استناداً إلى مقطع الفيديو الذي أظهر خاشقجي وهو يدخل مبنى القنصلية بينما لم يخرج منه أبداً. وفي مقابلةٍ له مع صحيفة Bloomberg الأميركية، أصر ولي العهد أن خاشقجي غادر القنصلية، ولكن لو كان ذلك صحيحاً، لكان من الممكن للسعوديين الإفصاح عن مكان الجثة.
كما أن النظرية التي تُرجع الأمر إلى نشوب مشاجرة عفوية، لا تفسر إقالة المستشار سعود القحطاني، الذي كان بمثابة الذراع اليمنى لمحمد بن سلمان، والذي يعتقد البعض أنه هو من شجعه على إخراج أسوأ ما لديه. يصفه منتقدوه بأنه "وزير الذباب الإلكتروني"، فقد اتُهم من قبل باستخدام الحسابات الإلكترونية والمتصيدين على مواقع التواصل الاجتماعي لقيادة حملات تشويه معارضي الحكومة، ولا سيما في أعقاب أزمة قطر. كما أشرف القحطاني على جهود العلاقات العامة في الخارج، وكان يُعرف بلغته العدوانية على الإنترنت. في وقت كتابة هذا المقال، تقول التغريدة المُثبتة التي تتصدر حسابه "بعض الإخوة يلومني على ما يرون أنه شدة بالعبارة. لكل مقام مقال. والحديث هذه الأيام يحتاج لهذه اللغة. ولو رجعتم لتغريداتي قبلها لما وجدتم ذلك".
يصعب فهم قرار إقالة القحطاني إلا في سياق كونه تعنيفاً ليناً لمحمد بن سلمان على تماديه وقسوته، من قبل الملك سلمان الذي تدخّل قبل بضعة أيام ليتعامل مع تداعيات مقتل خاشقجي. أخبرني أحد المسؤولين السعوديين أن أوامر الملك ربما تغير الطريقة العنيفة التي تتعامل بها السلطات مع المعارضين.
بالطبع سيتوقع البعض أن الملك يخطط الآن لإجراء تغييرات جذرية، تشمل تسلسل ولاية العهد. لكن هذا السيناريو شديد القسوة غير محتمل. وعلى الأرجح سيتجاوز محمد بن سلمان هذه العاصفة، وسيبقى الحاكم الفعلي للمملكة، وإلا لما جعله الملك مسؤولاً عن لجنة وزارية مهمتها إعادة هيكلة القيادة العليا لأجهزة الاستخبارات في البلاد!
لإبعاد اللوم عن محمد بن سلمان، يشير المسؤولون السعوديون إلى وجود أمر عام قائم يلزم السلطات "بإعادة" المعارضين السعوديين في المهجر، ويقولون إن الأشخاص الثمانية عشر فشلوا في ذلك. ووفقاً لمسؤولٍ نقلت عنه وكالة رويترز، فقد كان محمد بن سلمان على علم بذلك الأمر، ولكن ليس بالعملية التي جرت.
يبيّن ظهور الملك خلال الأسبوع الماضي قيمته، بل وضرورة حضوره كرجل دولةٍ عجوز، مكذباً الإشاعات القائلة بأنه ينوي التنازل عن العرش. لم يطرح ذلك الأمر يوماً بشكل جدي.
وعلى الرغم من عدم اكتمال الرواية الرسمية السعودية، فمن المرجح أن يرددها الكثيرون داخل المملكة. لقد وضع الملك حداً لمحاولات إنكار مقتل خاشقجي أو إلقاء اللوم على تركيا وقطر. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، احتفى السعوديون بهذا الإعلان باعتباره خطوة مسؤولة، وقدموا التعازي لعائلة خاشقجي.
أما خارج المملكة، فربما يستمر الضرر الناتج عن هذه الواقعة لفترة أطول. يعتقد الكثيرون أن محمد بن سلمان أمر بقتل خاشقجي، أو على أقل تقدير، كان على علم بأنه سيُقتل. أضرت همجية هذه الجريمة بسمعته في الخارج بالفعل، ربما إلى درجة لا يمكن إصلاحها، إذ حولت حلفاءه السابقين إلى ناقدين شديدي اللهجة لسياساته. ويبدو أن ملايين الدولارات والجهود المبذولة في مجال العلاقات العامة للترويج لولي العهد باعتباره مصلحاً قد ذهبت سدى.
لا يعني ذلك أن شيئاً جوهرياً سيتغير. ففي نهاية المطاف، من غير المرجح أن يؤدي موت خاشقجي إلى تغيير جذري في العلاقات الخارجية للمملكة وفي دورها الإقليمي. وواشنطن لن تعيد تنظيم تحالفاتها في الشرق الأوسط فقط لأنها فقدت ورقة التوت التي كانت تستتر بها.
- هذه التدوينة مترجمة عن صحيفة The Atlantic الأميركية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.