جمال خاشقجي.. ادفنوا ابن المدينة في البقيع حيث أراد

عدد القراءات
2,582
عربي بوست
تم النشر: 2018/10/21 الساعة 06:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/22 الساعة 09:56 بتوقيت غرينتش
جمال خاشقجي في المدينة المنورة

عزيزي القارئ الكريم، إذا كنتَ لا تعرف جمال خاشقجي ولا تعرفني، لكنك تشترك معنا في حب المدينة، فهذا المقال لك بالتأكيد!

قبل أن يظهر "سكين داعش" و"منشار الأنظمة" اللذان لا يختلفان كثيراً، وبالتحديد في أواخر سنة 1979، وبعد أحداث الحرم، أراد أمير الرياض تأكيد أصالة نَسَبه، فقال للصحافي اللبناني طلال سلمان:

"نحن لسنا كأُسرة محمد علي التي حكمت مصر أكثر من مائة وخمسين سنة، نحن لسنا من أصول ألبانية؛ بل نحن أبناء هذه الأرض، أبناء الرمل والشمس وضوء القمر، يكفي أن أقول لك إن أحد أجدادنا هو مسيلمة الكذاب".

سلمان بن عبدالعزيز، أمير الرياض سابقاً، وملك السعودية الحالي.

 

أبناء الرمل والشمس

سأعود لسنوات طفولتي، عشتُ في الرياض عامين، كنت أشعر بأنهما أجمل سنوات حياتي، أحببت الناس والصحراء ولَم أحب البقية!

وعندما ذهبت للمدينة المنورة فهمت السبب؛ الحجاز لا يشبه نجد، والمدينة لا تشبه الرياض، رغم أنهما يشتركان في الرمل والشمس وضوء القمر!

وبدلاً من أشرح لك -عزيزي القارئ- شعوري غير الناضج وقد كنت طفلاً، تجاه المدينة المنورة، سأحيلك إلى المستشرق النمساوي ليوبولد فايس، المعروف باسم محمد أسد، الذي طاف بلدان الشرق صحافياً ومتأملاً حتى أسلم وعمره 26 عاماً، وقصد مكة للحجّ، لكنه وقع في غرام المدينة المنوّرة التي عاش بها 6 سنوات، وأصبح ضيفاً وصديقاً للملك عبد العزيز، وطاف أنحاء الجزيرة العربية قبل توحيدها، وتعلَّم العربية، وتزوّج من أسرة بالمدينة المنورة، وأنجب في المدينة ابنه الوحيد (طلال)، ثم ألَّف الكتاب الذي يُوصف بأنه  أجمل ما كتبه غربيٌّ عن الإسلام، حتى مات في بداية التسعينيات.

بدأ "أسد" رحلته من اليهودية للإسلام في القدس، وانتهى به المطاف في المدينة المنورة، التي قال فيها: "تستطيع أن تلمس ذلك الحب بيديك، إلا أنك لا تستطيع أن ّعنه بأي كلمات، مهما كانت بلاغتها…".

 

طيبة الطيّبة.. لا نستطيع الكلام مهما كانت بلاغتنا

هنا المدينة المنورة، أو يثرب القديمة، عاصمة المسلمين الأولى التي احتضنت هجرة النبي وإقامته حتى وفاته، ونزلت بها سُور القرآن المدنيّة، وبُني بها أول مسجد.

قبل اختفائه في قنصلية بلاده بأسبوعين فقط، علَّق جمال خاشقجي على زيارة رئيس الوزراء الباكستاني الجديد للمدينة المنورة، ودعائه عند الحرم النبوي، وكتب كلاماً مؤثراً، داعياً له "بقدر محبته لساكنها عليه الصلاة والسلام".

ردَّ عليه شاب يبدو سعودياً متحمساً لمذهب المملكة، قائلاً: "متأكد من محبته لساكنها؟ محبة الجماد أم محبة النهج"، على الفور ردَّ أبو صلاح:

 

المدينة التي صارت مانهاتن، لكن بقيت قبورها!

وُلد جمال أحمد حمزة خاشقجي وترعرع في المدينة، وكان أعمامه مؤذني الحرم النبوي، لكن في حوار سابق له مع صحيفة "الشرق"، اشتكى بمرارةٍ مما حلَّ بالمدينة، قائلاً:

"أنا من المدينة، رأيتها وهي تتلاشى وتتحول إلى مانهاتن مشوَّهة! رأيت بئر الخاتم، وجبل الرماة، رأيت سقيفة بني ساعدة، ومكتبة عارف حكمت، والتكية المصرية، تجوَّلت في أزقّتها ومبانيها التي تعود لمئات السنين، كلها زالت، غريب ما نفعله!

إسرائيل تبحث عن تاريخ لها في القدس فلا تجده، فتفتعله! هل تعلم أنه ما من دليل على أن حائط المبكى جزء من المعبد اليهودي المزعوم، والحفريات تُثبت أنه بناء مملوكي، الخبراء يقولون إنه ما من دليل (آثاري) يثبت كلَّ قصص وروايات الدين اليهودي، فلا يبقى عندهم غير الإيمان بالرواية الشفهية. بينما نحن جمعنا التواتر الشفهي، والآثار، فكأننا بإهمالنا التاريخ نلغي هذا الجانب. أَضيقُ من الحديث في هذا الموضع؛ لأني وغيري فاقدون للحيلة، ولأنه لم يبقَ شيء، دُمِّر كل شيء بعبثية غير مبرَّرة، أجد ألَّا فائدة من الحديث غير إثارة المواجع".

لكن التشوَّه الذي أوجع أبو صلاح لم يحلّ بقبورها حيث دُفن النبي في المسجد النبوي، وجواره "بقيع الغرقد"، وهي المقبرة الرئيسة لأهل المدينة المنورة منذ عهد النبي محمد، وتقع عند سور الجامع من الناحية الجنوبية الشرقية، ولا تزال قيد الاستخدام حتى الآن.

لم يُدفَن سيد الشهداء في الإسلام، عمّ النبي، حمزة بن عبد المطلب بالبقيع؛ بل في مقبرة "شهداء أحد" شمالي المسجد النبوي، على بُعد 5 كم ناحية الجبل الذي شهد المعركة الشهيرة.

 

وكذلك كان أبو صلاح مدنيّاً بامتياز

هنا أعود لحكايتي الخاصة، لم أكن أحبه كثيراً، وكنت أرتاب منه، التقيته أول مرة، وسلّمت وجلست على مائدة يحكي فيها بعض ذكرياته، وخطر ببالي كيف يصبح رجل كان حتى وقت قريب مقرباً من دوائر القصر ورجاله، واحداً من "معارضيه" الإصلاحيين، لم أمتلك جواباً وقتها، ولم يفدني السؤال، لكني تذكرت كونه مدنياً، وأنا في حياتي لم أعرف رجلاً من المدينة المنورة وظننت به سوءاً قط!

بقيت الأسئلة المتعارضة تدور في بالي، حتى أصبحت "مواقفه الجديدة" أكثر وضوحاً وإصراراً، عارَضَ حربَ اليمن بعد أن كان يؤيدها، وقف بلا مواربة ضد السيسي رغم أنه كان يقبل ضمناً موقف المملكة مما جرى، وأخيراً اعترض على أفعال ولي العهد المتهور، بصراحة وقوة لا تقبلان الشك.

 

ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله

كان حمزة بن عبد المطلب في الجاهلية فتىً شجاعاً كريماً سَمِحاً، وكان في الإسلام أكثرَ قوةً وكرماً، وبكاه النبي: "رحمك الله، أي عم، فلقد كنت وَصُولاً للرحم فعولاً للخيرات"، قُتل حمزة غدراً بلا مبارزة، وقُطِّعت أجزاء جسده.

وخرج الرسولُ محمدٌ يلتمس حمزة بن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بُقر بطنُه عن كبده، ومُثِّل به، فجُدع أنفه وأذناه، فصلى عليه النبي والصحابة ودُفن في مكانه على أطراف المدينة، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".

بعد كلِّ هذه القرون، قُتل أبو صلاح، ومُثّل بجسده، وقُطِّعت أجزاؤه ثمناً لقوْلَةِ حقٍّ عند حاكم ظالم. لكن بقاياه لم يُعثر لها على أثر حتى الآن، وتعددت الاحتمالات من إذابته في الحمض، إلى نقل أجزاء جثته وإخفائها في مكان واحد أو أماكن مختلفة.

"وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" (سورة البقرة: 72).

 

ادفنوه بالبقيع

في اليوم الأول لاختفاء خاشقجي، اتَّصلتُ بأحد أصدقائه المقربين، وسألته عن رأيه، فقال لي إنه يتمنَّى أن يكون قُتل لا اختُطف؛ لأنه لن يتحمَّل أهوال ما سيفعلونه به إن جلبوه للمملكة، فهم ناقمون عليه بشدة!

في اليوم التالي، كان يرجّح أن هذا ما جرى بالفعل. هاتفتُ صديقاً آخر ربما تكون لديه صلة بالقنصل السعودي في إسطنبول، رَجوتُه أن يحاول الوصول للقنصل، ويطلب منه أن يعلن الحقيقة، ويخرج لبلد آمن أو يبقى بتركيا ولا يغادر السعودية، فهو سيكون الضحية سواء بقي في تركيا (وتعرَّض للمحاكمة فيها؛ إذ إن الحصانة تكون فقط لدبلوماسيي السفارة بالعاصمة وفق اتفاقية فيينا، لا للقناصل في القنصليات) أو غادر للمملكة فقد يصبح "كبش فداء" لولي العهد القاتل، لكن لم أكن أتوقع أنه متورّط لدرجة أن كل الجريمة تمت في مكتبه وأمام عينيه مثلما ظهر في الأخبار لاحقاً.

وهذه المرة الرجاء مختلف كثيراً، وأبسط للغاية، نحن جميعاً صرنا على يقين من مقتله في القنصلية، ولا أَمَل ببقائه حياً، لكن هذا هو غرض المقال بالفعل، كان أبو صلاح يحب المدينة التي وُلد فيها، فتحلَّوا ببعض الشجاعة بعدما قتلتموه، واعترِفوا بالحقيقة، وبما جرى وعَرَفه العالم أجمع، أخبِرُوا أحبابَه وأولياء دمه بمكان جثته (إن بقيت) وادفنوه بالبقيع، فقد كانت وصيته أن يُدفن بمدينة رسول الله.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد عدنان
كاتب
تحميل المزيد