استبشر هو وكثيرون ممن حملوا همَّ إصلاح البلد، بعد تولي الملك سلمان زمام الحكم، فكان صوته ورأيه وفكره في كل مكان. برز الكاتب الصحافي جمال خاشقجي كثيراً، وشعر بأن البلد في طريق إصلاح شامل عميق، ومن ذلك حرية التعبير، الذي بدأ سقفه يرتفع شيئاً فشيئاً، إلى أن تباطأ ذلك الصعود، ليبدأ بعد قليل الدخول في أجواء من الانتكاس والنزول السريع، من بعد أن بدأت الصدور الرسمية تضيق، وأن الرأي والرأي نفسه هو المنهج الجديد لصاحب السلطة والقرار، أو إن صح التعبير، بدأ عهد "ما أريكم إلا ما أرى" بقيادة ولي عهد البلاد.
هنا بدأ جمال في ضبط حماسته واندفاعه، وبدا له أن الحذر والحكمة في التعبير أولى وأجدر بالاتباع، ريثما يتعرّف أكثر فأكثر على النهج الجديد لصاحب القرار، الذي فاجأ مَن بالداخل والخارج أجمع.
عهدٌ تراجع فيه سريعاً ولي الأمر، الذي لم يعد يطيق رأياً أو نقداً يخالف ما يراه، فتبدّلت الأجواء إلى أجواء تضييق متدرج شيئاً فشيئاً، حتى تحوَّلت التضييقات إلى توقيفات طالت وجوهاً مختلفة ما بين سياسية ودعوية وفكرية وغيرها، وكان جمال من ضمن من طالت يد السلطة إليه، لكن حذَّرته وطلبت منه خفض صوته، ثم بعد حين من الدهر قصير، كتمت صوته.
حيث جاء عن مصدر رسمي سعودي مسؤول في بيان بثته وكالة الأنباء السعودية، أن السيد خاشقجي لا يمثل المملكة العربية السعودية في كل مقابلاته وتصريحاته الصحافية، في إشارة وتبرئة للحكومة السعودية مما صدر عن جمال أثناء مشاركة له في ندوة بواشنطن، وكان انتقد فيها وصول دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة في الانتخابات الأميركية، وأن السعودية تشعر بالقلق من وجوده المنتظر في البيت الأبيض، بسبب سياساته ومواقفه المعادية للمسلمين.
بعد إيقافه إعلامياً لأجل ترمب تم إيقافه بعد تلك المشاركة وتلكم الآراء من الكتابة في الصحف المحلية والخارجية، ومنع ظهوره في المحطات التلفزيونية العربية والأجنبية، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات السياسية وغيرها، وسرى هذا المنع كذلك على محطتي العربية والحدث والإخبارية السعودية، وتم كذلك إخطار الجزيرة ومحطات خليجية أخرى بالقرار أيضاً، الذي استمرَّ حوالي تسعة أشهر، كان يشعر أثناءها بأن الوضع لم يعد آمناً في المملكة بالنسبة لشخص مثله، وبات الخروج أو الهجرة ولو مؤقتاً، أمراً محموداً الآن، بل وواجباً تفرضه الظروف المحيطة به، خاصة أن إرهاصات حملة الاعتقالات الشهيرة قد بدأت تظهر صيف العام الماضي، فخرج مسرعاً بصورة ما من البلاد، واختفى حيناً من الزمن لم يطل، ليظهر بعدها من واشنطن، ويعود للتغريد في تويتر، والكتابة في صحيفة الحياة اللندنية.
شرح أسباب خروجه والهجرة إلى واشنطن كمنفى اختياري، لكنه لم يستمر طويلاً مع صحيفة الحياة، إذ بعد شهر واحد من العودة للظهور الإعلامي، يأتي رئيس تحرير الصحيفة ليبلغه بقرار الإيقاف بناء على رغبة الناشر، الأمير خالد بن سلطان! بعد خلاف حول وجهة نظر كتبها جمال في تغريدة له رآها الناشر أنها لصالح الإخوان المسلمين، وهي جماعة محظورة بالمملكة، لكنه تفهّم الأمر وشكر الصحيفة والناشر، وخرج.
وما إن اغلق أمامه باب الحياة، حتى فُتح له باب آخر يكمل منه رحلة الكتابة في واحدة من أشهر صحف العالم، حيث البيئة التي يستحقها ويحبها، صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.
استمرَّ جمال في نقد بعض ما لم يكن يسرّه من أوضاع تحدّث بالمملكة، وبعض قرارات غلبت عليها صبغة التسرع وغياب الرؤية، وصار نجماً عالمياً يظهر في فضائيات عربية وأجنبية، وصار ناشطاً إلكترونياً على منصة تويتر، ويشارك في ندوات ومؤتمرات هنا وهناك، حتى يخيّل إليَّ أن هذا النشاط العالمي الغزير له لم يعجب صاحب منهج "ما أريكم إلا ما أرى"، ولا أشك لحظة في أن قرار كتم صوته قد تمّ تناوله على عَجَل، واتخاذ ما يلزم لذلك، دون أدنى تفكُّر في التبعات والنتائج.
المشهد الأخير في حياته يبدأ خاشقجي بالتغريد كالمعتاد، فكتب في اليوم الأول من أكتوبر الجاري: "قبل اعتقاله بيومين، كان عصام ضمن وفد من مركز أداء بواشنطن، يساعدهم بخبرته ويجول معهم على مؤسسات أميركية للاستفادة من خبراتها. عصام الزامل لا يستحق معاملة كهذه أو اتهامات لم تقنع أحداً…"
يتحدث هنا عن الرجل الاقتصادي السعودي عصام الزامل، الذي نال جوائز عديدة من الدولة تقديراً لجهوده في مجال الاقتصاد، وكان الزامل في مهمة رسمية بالولايات المتحدة، حتى إذا ما رجع لبلده تم اعتقاله، ثم بعد ذلك بفترة وجيزة تم توجيه عدة تهم إليه، منها الارتباط بجماعة الإخوان المسلمين، والاتصال بقطر! هنا يدافع خاشقجي عن زميل ومواطن يشترك معه في همّ إصلاح البلد، ويكتب مستغرباً ومنوهاً بأن الزامل شخص يستحق معاملة أفضل مما واجهها بُعيد عودته من مهمة كانت لصالح مستقبل المملكة، لكن الغرابة والإثارة أنه لم تمض ساعات على تغريدة الدفاع عن عصام حتى بدأ مشهد دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول في اليوم التالي، ليواجه معاملة -ربما لو سأله أحد حينها أن يختار بين المعاملة التي لقيها بالقنصلية أو المعاملة التي تلقاها الزامل حين عودته للبلاد- لكان من المؤكد أنه سيختار الأخيرة، مع أنها لا تقل في السوء والإهانة.
هكذا كان جمال، أحبَّ وطنه في كل زمان ومكان، وكان حريصاً، كما كان يردد، ألا تنقطع حبال الود مع الوطن، فهكذا هم السعوديون، بحسب رأيه. إن حبه لوطنه وأهله وأصدقائه وزملائه هو الذي دفعه قبل ساعات ليطالب بمعاملة أفضل لزميله عصام، ليس لشيء سوى أنه يستحقها، فإذا القدر يضعه في ظرف لا ندري كيف كانت الأجواء، لكن لا شك وبحسب ما تسرّب من معلومات حتى الآن، أنه كان قاسياً وبشعاً لا يستحقه جمال، الذي وضع شعاراً له على صفحته بتويتر "قل كلمتك.. وامش".
وقد قالها ومشى، لكن إلى أين؟ هذا ما ينتظره ويترقَّبه العالم كله.. وإنّا إلى معرفة ذلك لمنتظرون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.